ما جرى في مبنى سنترال رمسيس لم يكن مجرد حادث عارض، بل لحظة كاشفة لاختبار جاهزية البنية التحتية الرقمية في مصر، وسط تصاعد الاعتماد الوطني على تكنولوجيا الاتصالات والخدمات الإلكترونية، فالسنترال، الذي يُعد أحد الأعمدة الأساسية لشبكة الاتصالات في البلاد، لم يكن مركزًا فنيًا فقط، بل عقدة استراتيجية تربط بين المؤسسات والمواطنين، وبين الدولة وسوقها الرقمي النامي.
اندلاع الحريق وما تبعه من شلل جزئي في خدمات الهاتف الأرضي والمحمول، وتعطل الإنترنت، وتأثر عدد من الخدمات الحكومية والمالية، أثار تساؤلات جادة حول مدى توافر خطط الطوارئ وقدرة المنظومة على التعافي السريع. إذ أظهرت الأزمة الحاجة إلى مراجعة شاملة لبنية الاتصالات، ليس فقط على مستوى التحديث التقني، بل فيما يتعلق بتوزيع المراكز الحيوية والنسخ الاحتياطية على نطاق جغرافي أوسع.
ولا يمكن إغفال أن الدولة قطعت شوطًا كبيرًا في مشروعات التحول الرقمي خلال السنوات الأخيرة، سواء من حيث تطوير البنية التحتية أو تقديم الخدمات عبر منصة مصر الرقمية،غير أن حادثًا بهذا الحجم يُعيد التأكيد على ضرورة الموازنة بين التوسع والاحتواء، بين النمو والاستعداد، وبين التطوير وحسن الإدارة.
المؤشرات الأولية لما بعد الحريق أظهرت تجاوبًا سريعًا في محاولة إعادة الخدمة، لكن التحدي الأكبر لا يكمن في استعادة الاتصالات فحسب، بل في القدرة على استخلاص الدروس وبناء نظام رقمي قادر على الصمود أمام الأزمات. وهذا لا يتحقق إلا من خلال مراجعة آليات التأمين، وتكامل البنية التحتية، وتعزيز الثقافة المؤسسية لإدارة الأزمات.
لقد أعاد الحريق تعريف معنى "الأمن القومي الرقمي" من زاوية مختلفة لم يعد الأمر مقتصرًا على الحماية من الهجمات السيبرانية أو الاختراقات الخارجية، بل أصبح يشمل أيضًا البنية الفيزيائية ومراكز التشغيل نفسها، وهنا يظهر دور الاستثمار طويل الأمد في الكوادر الفنية، وفي تكنولوجيا التنبؤ والوقاية، وفي تعزيز ثقافة السلامة داخل كل منشأة تحمل على عاتقها مسؤولية البقاء الرقمي للدولة.
في النهاية، الحوادث الكبرى قد تقع في أي دولة، لكن الفرق يصنعه الاستعداد والقدرة على الإصلاح والتطوير، وحريق سنترال رمسيس ليس نهاية الطريق، بل فرصة ثمينة لإعادة تقييم الواقع، وتوجيه الاستثمارات نحو بناء منظومة أكثر أمانًا واستدامة، تواكب طموحات الدولة في التحول الرقمي وتدعم ثقة المواطنين في الخدمات الإلكترونية.