أخبار عاجلة

بقر إسرائيل

بقر إسرائيل
بقر إسرائيل
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في مساء هادئ من يوليو، وبينما كانت الأرض الجنوبية للبنان تعيد لملحها وجه الغروب، عبرت الأبقار. لم تكن دبّابات، ولا صواريخ، ولا طلعات جوية. كانت مجرد أبقار. خمسون رأسًا من اللحم الحي تمشي بتؤدة في خلاء الحدود، تتشمم الشوك، وترفع ذيولها في وجه وطن.

ماذا يعني أن يدخل قطيع بقر من إسرائيل إلى الجنوب اللبناني؟ في ظاهر الأمر: لا شيء أكثر من خلل في سياج، أو هروب من مرعى جاف، أو رعونة راعٍ. وفي باطنه: كل شيء.

هذه ليست أول مرة يدخل فيها الاحتلال، لكنها المرة الأولى التي يدخل فيها بلا خوذات حديدية، بل بحوافر رخوة، يعلوها وبر ناعم، وتصدر عنها رائحة زريبة، لا رائحة بارود. ومع ذلك، ارتجف الجنوب. ليست الأبقار هي الخطر، الخطر في الرمز.

إن البقرة، كما يقول سكان بيت ليف، قد تكون "ملوثة جرثوميًا". عبارة تختلط فيها الوقاية من الأمراض، بشكّ قديم في نوايا الغزاة. فهل أصبحت الأبقار أسلحة بيولوجية؟ ربما لا. وربما نعم. من يملك الحقيقة على حدودٍ لا يعترف بها أحد؟

في لبنان، الحقيقة عادة ما تُحلب في الفجر، وتُشرب في فنجان شايٍ على مائدة مهجّرين.

لكن الأبقار لم تأتِ وحدها، أتت معها لغة كاملة من الالتباس. أن تدخل بقرة أرضًا لا تعرفها، فتتسبب في استنفار البلديات والجيش واليونيفيل، فذلك يعني أن "الحيوان" صار أقرب إلى الحرب من "الإنسان".

وأن يُطلق على البقرة وصف "عدو محتمل"، فتلك ذروة التهكم الأسود الذي يفرضه الواقع المُر.

البقرة في المخيال العربي كائن خصيب، أمومي، مسالم، ومرغوب في حلبه لا في قتله. أما في المخيال الإسرائيلي، وفي الحكايات التوراتية، البقرة الحمراء هي رمز نهاية؛ علامة خراب أو خلاص. وفي الحكايات الحديثة، البقرة التي تعبر السياج بلا إذن، تصبح علامة استفهام سياسية.

يا لها من مهزلة! بلادٌ دُمّرت بالمدافع، والآن تستنفر على حافرٍ لا يعرف السياسة. لكن، لعل الأمر أعمق. لعل هذه الأبقار ليست مجرد قطيع. بل تذكير مادي بأن الجدار، مهما كان خرسانيًا، لا يفصل بين الطين والطين، ولا بين الأعشاب والنباتات، ولا بين الدماء التي تراق واللبن الذي يُحلب.

أن تكون بقرة إسرائيلية "مشبوهة" في عيون الجنوبيين، فتلك ليست إسقاطًا على الحيوان، بل على نوايا الإنسان.

ثمّة سؤال: ماذا لو كانت هذه الأبقار "سليمة"؟ ماذا لو عبر القطيعُ كما يعبر المطر الغيم، بلا حسابات؟ هل يمكن أن يكون الحيوان أكثر براءة من صاحبه؟ في فلسفة الحدود، ليست المسألة في الجغرافيا، المسألة تكمن في الرمزية. وليس القلق من المرض، بل من المعنى.

أن تدخل الأبقار أرضًا من دون استئذان، فذلك فعل شبيه بما يفعله المحتل منذ سبعين عامًا.

لكن الفرق أن الأبقار لا تطلق النار، ولا تستوطن، ولا تغيّر أسماء القرى. إنها فقط تأكل، وتجتر، وتنظر بعين دامعة إلى جدار لا تفهمه.

في جنوب لبنان، تعلم الناس كيف يقرؤون لغة الرصاص. لكنهم اليوم، يقرأون لغة الضرع.

ليس من المستبعد أن تُجرى للأبقار فحوص مخبرية، ويصدر تقرير من وزارة الزراعة: "البقرة رقم ٤٢ غير مصابة بالبروسيلا". لكن ماذا عن الذكريات التي أصابت أرواح الناس منذ أن عبرت البقرة الحدود؟ من يشخّص تلك العدوى؟ من يكتب تقريرًا عن مفعول الرموز؟

يا لها من لحظة عبثية؛ أن يتكلم الناس عن حرب الأبقار، ويكتبون بيانات، ويتناقلون تحذيرات، وكأننا لم نعتد أن يدخل علينا العدو بوجه آخر. وجه دابة. وجه ناقة. وجه نهر.

في النهاية، ليست الأبقار من يُلام. بل من علّم الأرض أن تخاف حتى من الحيوان. من جعل الخوف ممتدًا من جنازير الدبابات إلى ظلّ ذيلٍ يهتز في حقل. لقد علّمتنا إسرائيل أن نرتاب من كل شيء. حتى من بقرة.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق belbalady سوريا.. "اعتذار" الممثل باسم ياخور عن تصريحات سياسية سابقة يشعل ضجة
التالى بعد قرارات البنك المركزي بتثبيت أسعار الفائدة.. شوف أسعار الذهب في مصر رايحة علي فين