في إحدى زوايا متحف مظلم في مدينة كونيتيكت الأميركية، تقبع دمية قماشية خلف صندوق زجاجي محكم الإغلاق، تحيط بها تحذيرات للزوار بعدم لمسها أو حتى النظر إليها باستهزاء. إنها "أنابيل"، أكثر الدمى شهرة في عالم الظواهر الخارقة، والتي قبل إنها تسببت في وفاة الباحث في الشؤون الماورائية دان ريفيرا ما أعاد إحياء المخاوف القديمة حول تلك الكائنات الجامدة التي تتخفى خلف وجوه بريئة، لكنها، كما يقول عشاق الرعب، تعرف أكثر مما يجب، وتنتظر شيئاً لا يعلمه أحد.
قصة ريفيرا مع الدمية القاتلة
كان ريفيرا البالغ من العمر 54 عاماً يشارك في جولة استعراضية ضمن فعالية بعنوان "الشياطين الهاربة"، حيث تُعرض دمية "أنابيل" الشهيرة لجمهور من هواة الظواهر الغامضة.
و في منتصف يوليو 2025، عُثر عليه فاقداً للوعي داخل غرفته بأحد فنادق مدينة جيتيسبيرج في ولاية بنسلفانيا، دون وجود دلائل على أي شبهة جنائية. لكن محبي عالم الظواهر الخارقة لم يحتاجوا إلى سبب مادي؛ وجود "أنابيل" في محيطه يكفي لبناء قصة مرعبة جديدة، تستند إلى ما يشبه الأسطورة، لكنها تنبت من وقائع ووقائع لا يُفهم تفسيرها.
العيون الزجاجية التي لا ترمش
منذ زمن بعيد، لم تكن الدمى مجرد ألعاب يتسلى بها الأطفال، بل كانت انعكاساً ثقافياً لمفاهيم الخير والشر. بمرور القرون، تحوّلت هذه المجسمات التي تحاكي البشر إلى رموز نفسية معقدة، تستفز اللاوعي الجمعي. وقد عرّف عالم الروبوتات الياباني ماساهيرو موري عام 1970 هذه الحالة بمصطلح "وادي الغرابة"، في إشارة إلى الشعور بالانزعاج حين نواجه شيئاً يشبه الإنسان إلى حد كبير، لكنه يفتقر إلى الحياة أو الدفء الإنساني، مثل الدمى والروبوتات الشبيهة بالبشر. هذا الغموض البصري الذي يخلقه الشبه الناقص يثير قلقاً دفيناً، يجعل من كل دمية تحدق بعيون زجاجية وكأنها تعرف شيئاً خفياً.
حين تتحرك الدمية فعلاً
لا تقتصر حكايات الدمى المسكونة على الخيال السينمائي، بل تعود إلى وقائع متواترة في الثقافات الغربية، و واحدة من أشهر هذه الحكايات بدأت عام 1904 في فلوريدا، عندما أُهديت دمية تدعى "روبرت" إلى الطفل يوجين أوتو.
وخلال سنوات إقامتها في منزل الأسرة، بدأت الأسرة والجيران يلاحظون سلوكيات غريبة مرتبطة بها، من تحركها من مكان إلى آخر، إلى إصدارها أصواتاً خافتة، وحتى تغيّر تعبيرات وجهها، وبقيت الدمية في المنزل بعد وفاة صاحبها، وما زالت حتى اليوم معروضة في متحف "فورت إيست مارتيلو" خلف زجاج سميك، مع لافتة تحذر الزوار من التصوير دون إذن.
هذه القصة ألهمت سلسلة أفلام الرعب الشهيرة "تشاكي"، التي حوّلت دمية الأطفال إلى قاتل متسلسل لا يُقاوم. ومع أفلام مثل "صمت قاتل" و"أنابيل"، رسّخت هوليوود هذه الصورة المخيفة للدمى، مستثمرة في قلق الإنسان الطبيعي من المجهول والمستتر تحت ملامح البراءة.
دمى تؤذي وتُبارك
في غرب أفريقيا وجزر الكاريبي، تأخذ الدمى طابعاً أكثر قدسية وخطورة، إذ تُستخدم ضمن طقوس ديانات الفودو كأدوات للتواصل مع الأرواح، أو التأثير على مصائر الأشخاص، وتصنع من مواد حية، مثل الشعر أو الملابس الشخصية، وتُستخدم طقوس سحرية للتحكم في الطاقة الروحية المرتبطة بها. وعلى عكس التصورات الهوليوودية التي تختزل هذه الدمى في أداة للانتقام، فإن مجتمعاتها الأصلية تستخدمها أيضاً للحماية وجلب الحظ. ومع ذلك، فإن صورتها المرتبطة بالسحر الأسود أصبحت الأكثر شيوعاً بفعل التأثير الغربي والسينمائي.
حماية وانتقام
في أقصى الشرق، تقدم اليابان نماذج مختلفة من علاقة الإنسان بالدمى، تجمع بين الطابع الروحي والأسطوري. لعل أشهر هذه القصص هي قصة دمية "أوكيكو"، التي يعتقد أنها احتفظت بروح طفلة صغيرة ماتت قبل الأوان. تقول الأسطورة إن شعر الدمية كان يواصل النمو حتى بعد وفاة الطفلة، ما دفع الأسرة إلى وضعها في معبد بوذي حيث لا يزال الرهبان يقصون شعرها بانتظام حتى اليوم.
تتحدث الفولكلورات اليابانية أيضاً عن "تسوكوموغامي"، وهي أشياء تتجاوز عمر المئة عام وتتحول إلى كائنات واعية، بما فيها الدمى. بعضها يُقال إنه يبكي دماً أو ينتقم ممن يهمله. وتزخر القصص اليابانية بأمثلة عن دمى تهيم في الليل، أو تعود من البحر لتنتقم من من تخلّى عنها.
الرعب في التراث العربي
ورغم أن الثقافة العربية لم تُعرف بوجود قصص واسعة الانتشار عن دمى مسكونة، فإن التراث الشفهي لبعض المناطق يحتوي على إشارات مشابهة، ففي اليمن، تُهدى العروس دمية قماشية ليلة زفافها، وتُحاط بأساطير عن كونها قد تجلب السعادة أو اللعنة حسب طريقة التعامل معها، أما في المغرب، فتنتشر حكايات عن دمية "القربان" التي تُدفن تحت عتبة المنزل لجلب البركة، ويُحذر من العبث بها، ومع انتشار السوشيال ميديا، بدأت مقاطع فيديو تدّعي رصد دمى تتحرك في بيوت عربية، مما أعاد إشعال الأساطير المنسية.