منذ أيام، اجتمع في البيت الأبيض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وصهره جاريد كوشنر، ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، لمناقشة خطط "اليوم التالي" في غزة، حيث كانت القضية الفلسطينية في صلب النقاشات. من بين الموضوعات التي تم تناولها كانت الخطط الأمريكية لإعادة الإعمار في قطاع غزة بعد تدمير واسع خلال الهجوم الإسرائيلي الأخير، ومعها خطط اقتصادية يبدو أنها تهدف إلى تحويل غزة إلى "مركز تجاري حديث" بعيداً عن الحلول السياسية الشاملة أو حقوق الشعب الفلسطيني. ما هو لافت في هذه الاجتماعات هو غياب الفلسطينيين عن الطاولة، حيث تم اتخاذ قرارات مصيرية تتعلق بمستقبلهم دون مشاركتهم الفعلية، وهو ما يعيد إلى الأذهان صورة مماثلة لما حدث في وعد بلفور عام 1917، الذي بموجبه وعدت بريطانيا بإقامة "وطن قومي لليهود" في فلسطين، دون أخذ حقوق الفلسطينيين بعين الاعتبار.
من هنا، يمكن تحليل المشهد في ضوء تطبيق مفهوم "التسويق الأسود" في العلاقات الدولية، والتقاطع بين تاريخ وعد بلفور والسياسات الحالية التي تسعى إلى تصفية القضية الفلسطينية.
استراتيجية "التسويق الأسود"
يستخدم مصطلح "التسويق الأسود" للإشارة إلى جملة من الاستراتيجيات التسويقية غير الأخلاقية التي لا تقوم على الإقناع الموضوعي أو العرض الشفاف للحقائق، وإنما ترتكز على التلاعب بالمضامين وتشويه المعطيات وتضليل الرأي العام من أجل تمرير سياسات أو الترويج لمنتجات وأفكار قد تفتقر إلى الشرعية أو العدالة. وفي الأدبيات السياسية، يغدو هذا المفهوم أداة بالغة التأثير في إعادة صياغة الوعي الجمعي من خلال الاستخدام المتعمد للأيديولوجيات والشعارات والمفردات ذات الطابع الأخلاقي والإنساني لتبرير خيارات سياسية قد تكون في جوهرها مجحفة أو قائمة على الإقصاء، وذلك حتى وإن جاءت هذه السياسات على حساب حقوق الشعوب أو القيم الإنسانية المتعارف عليها.
وعند إسقاط هذا المفهوم على القضية الفلسطينية، يصبح التسويق الأسود إطاراً تحليلياً لفهم الكيفية التي يتم عبرها الترويج للسياسات الإسرائيلية والأمريكية الرامية إلى تصفية القضية عبر تغليفها بخطابات ظاهرها إنساني وباطنها سياسي؛ إذ تقدم المشاريع المرتبطة بـ"إعادة الإعمار" في غزة أو مبادرات "الاستثمار والتنمية" باعتبارها خطوات نحو الاستقرار والسلام، بينما تمثل في حقيقتها أدوات ممنهجة لتهميش جوهر القضية وإبعادها عن بعدها الحقوقي والوطني. وهنا يتحول الخطاب الإنساني إلى قناع يخفي وراءه مسعى لفرض واقع جديد يخدم بالدرجة الأولى مصالح الاحتلال الإسرائيلي والقوى الدولية الكبرى، عبر إعادة تشكيل أولويات النقاش العام حول فلسطين من مسألة تحرر وحقوق مشروعة، إلى قضية خدماتية أو إنمائية محصورة في إطار تحسين شروط الحياة تحت الاحتلال، دون المساس بجوهره أو تحدي شرعيته.
تخطيط من لا يملك لمن لا يستحق
في عام 1917، أصدرت بريطانيا وعد بلفور الذي تعهدت فيه بإقامة "وطن قومي لليهود" في فلسطين، متجاهلة تماماً حقيقة وجود شعب فلسطيني أصيل يعيش على أرضه منذ قرون، ومتنكرة في الوقت ذاته لحقوقه التاريخية والسياسية. آنذاك، شكل هذا الوعد تجسيداً لسياسة التلاعب بالمفاهيم وبيع الأوهام في مجتمع دولي كان منشغلاً بإعادة رسم خرائط ما بعد الحرب العالمية الأولى.
اليوم، وبعد أكثر من قرن، يمكن ملاحظة أوجه التشابه العميقة بين ذلك الوعد وما تقوم به كلٌ من واشنطن وتل أبيب في سياق غزة؛ إذ يجري توظيف خطاب جديد أكثر تعقيداً، يستند إلى مفردات "حقوق الإنسان" و"الإغاثة الإنسانية"، لكنه يخدم في جوهره ذات الهدف القديم: انتزاع الشرعية من الحقوق الفلسطينية وتثبيت واقع استيطاني أحادي الجانب.
فالسياسات الإسرائيلية المعاصرة، بما فيها التوسع الاستيطاني والضم والتهجير، يتم تسويقها على أنها "مشروعة" أو "ضرورية للاستقرار"، بل ويتم تقديمها في بعض الأحيان باعتبارها جزءاً من "حلول إنسانية" تندرج ضمن جهود "إعادة بناء غزة بعد الحرب". إلا أن هذا الخطاب في حقيقته لا يختلف كثيراً عن الرواية الاستعمارية التي رافقت وعد بلفور، والتي تجاهلت جوهر الصراع وحولت قضية شعب بأكمله إلى مجرد ملف قابل للتسوية السياسية.
إعادة إنتاج الرواية الاستعمارية
في الاجتماعات التي جمعت ترامب وكوشنر وتوني بلير في البيت الأبيض، برز هذا المنطق بوضوح، حيث تم طرح مشاريع لتحويل غزة إلى "مركز تجاري" أو حتى "وجهة سياحية"، تحت عناوين براقة مثل "السلام الاقتصادي" أو "الإعمار مقابل التهدئة"، من دون أن يُؤخذ في الاعتبار حق الفلسطينيين في المشاركة بتحديد مصيرهم. وفي خلفية هذه الطروحات يكمن مشروع تهجير صامت وتوسيع استيطاني منهجي، يُعاد من خلاله تعريف القضية الفلسطينية بوصفها "قضية اقتصادية" منفصلة عن بعدها السياسي والحقوقي.
ولا يقتصر الأمر على غزة وحدها، إذ أن الدعاية الإسرائيلية اعتادت الترويج للمشروع الاستيطاني في الضفة الغربية على أنه "حق تاريخي" وأن توسيع المستوطنات جزء من "الاستقرار" الإقليمي. وهو ما يتناقض بشكل صارخ مع مبدأ الحل السياسي الشامل الذي يشمل إقامة دولة فلسطينية مستقلة. ومن هنا، تجسد هذه السياسات المعاصرة فكرة "التسويق الأسود" حيث يتم تبرير هذه الانتهاكات عبر سرديات غير صحيحة، مما يجعل المجتمع الدولي ينظر إلى هذه التحركات على أنها جزء من عملية "سلام" شاملة، بينما في الحقيقة هي خطوة نحو تصفية القضية الفلسطينية.
الدور المصري في مواجهة سيناريوهات التصفية
أكدت القاهرة في أكثر من مناسبة رسمية، أن حل الدولتين هو الخيار الوحيد المقبول، وأن أي محاولات لتصفية القضية أو تجاوز حقوق الفلسطينيين غير مقبولة، وفي مارس 2025، طرحت مصر أمام قمة طارئة لجامعة الدول العربية خطة شاملة لإعادة إعمار قطاع غزة، -تم التوافق عليها عربياً ودولياً- قدرت تكلفتها بـ53 مليار دولار تمتد على مدى خمس سنوات، مع الالتزام الكامل بعدم تهجير السكان ومقابلة واضحة لاقتراح "ريفييرا الشرق الأوسط" الأمريكي. ويمكن اعتبار الرفض المصري الراسخ جزءاً من مواجهة "التسويق الأسود"، حيث تسعى مصر إلى فرض سياسات تحترم حقوق الفلسطينيين التاريخية في أرضهم.
ختاماً، تشير المعطيات الراهنة إلى أن التسويق الأسود في الصراع الفلسطيني، بات يتخذ شكل إطار استراتيجي متكامل لإدارة الأزمة، يدمج الجوانب الإعلامية بالدبلوماسية بالاقتصادية. وفي حال عدم تبلور موقف دولي صلب لمواجهته، فإن سيناريو الضم الكامل للضفة وتفكيك غزة قد يصبح أمراً واقعاً خلال العقد المقبل.