تشهد الساحة الفلسطينية ـ الإسرائيلية تطوراً نوعياً مع قبول حركة "حماس" مبدئياً بهدنة مؤقتة مدتها ستون يومًا تتضمن تبادلًا مرحليًا للأسرى، الأمر الذي يعكس تحوّلًا في مقاربة الحركة للأزمة الراهنة، بعدما أدركت أن ورقة الأسرى، التي كانت تمثل أحد أهم أوراق الضغط، فقدت جزءًا كبيرًا من فعاليتها بفعل تشدد حكومة نتنياهو وإصرارها على إطالة أمد الحرب، بل وحتى استعدادها لتفعيل ما يعرف بـ"قانون هنيبعل" الذي يسمح بالتعامل مع الجنود الأسرى كأهداف خشية تحوّلهم إلى أدوات ابتزاز سياسي.
هذا الإدراك دفع حماس إلى إعادة النظر في رهاناتها، مع قبولها بمقاربة أكثر مرونة، ساهمت القاهرة في بلورتها من خلال الدفع نحو تبادل مرحلي يفتح الباب أمام تفاهمات أوسع لاحقًا.
أبعاد متداخلة
الهدنة المؤقتة تحمل أبعادًا متداخلة؛ فهي تمنح القطاع المنهك فرصة لالتقاط الأنفاس، ومعالجة جوانب من الكارثة الإنسانية التي وصفتها الأمم المتحدة بأنها الأسوأ في القرن الحادي والعشرين، كما تتيح للحركة إعادة تموضع سياسي وعسكري، وإعادة ترتيب أولوياتها التفاوضية. لكنها في الوقت نفسه تبقى رهينة عقدة الشروط المتبادلة، حيث تتعامل حكومة نتنياهو مع أي تنازل باعتباره هزيمة سياسية، بينما ترى حماس أن أي إفراج عن أسرى إسرائيليين يجب أن يقترن بمكاسب ملموسة مثل وقف إطلاق النار أو رفع جزئي للحصار، وهو ما يجعل أي تفاهم مؤقت عرضة للانفجار في أي لحظة.
في إسرائيل، تتعمق حالة الانقسام الداخلي بين تيار يدفع نحو التصعيد العسكري بلا سقف ويقوده نتنياهو وتحالف اليمين المتطرف، وبين تيار آخر يطالب بصفقة تبادل الأسرى ووقف الحرب مؤقتًا لتخفيف الكلفة البشرية والاقتصادية، غير أن ميزان القوة لا يزال يميل لصالح حكومة نتنياهو، التي استطاعت أن تجعل من استمرار الحرب أداة لإعادة إنتاج شرعيتها السياسية وربط أي انتقاد لها بالطعن في "أمن الدولة".
المعارضة تبدو عاجزة عن صياغة بديل حقيقي، بينما تواصل عائلات الأسرى ممارسة ضغط متزايد على الحكومة، متهمةً نتنياهو بتعطيل أي صفقة محتملة لحساباته الشخصية، في وقت تتصاعد فيه الكلفة الاقتصادية اليومية للحرب لتبلغ مئات الملايين من الدولارات، فضلًا عن خسائر بشرية فادحة في صفوف الجيش.
اجتماع البيت الأبيض
أما على الصعيد الدولي، فقد دخل الملف مرحلة جديدة مع ترؤس الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب اجتماعًا موسعًا في البيت الأبيض بشأن غزة، بحضور شخصيات بارزة مثل جاريد كوشنر وتوني بلير.. طبيعة هذا الاجتماع تعكس نمطًا معروفًا من المقاربة الأمريكية، حيث تُطرح التهدئة المؤقتة مقابل مشاريع إنسانية أو اقتصادية في غزة، بينما يتم تجميد أي نقاش جاد حول الحقوق السياسية الفلسطينية. ترامب، الباحث عن إنجاز سياسي داخلي، يمنح نتنياهو مهلة إضافية لتعظيم مكاسبه الميدانية قبل أي تسوية محتملة، فيما يتكفل الوسطاء الإقليميون، خصوصًا مصر، بمحاولة ضمان ألا تتحوّل أي صفقة إلى مجرد إعادة إنتاج للأمر الواقع على حساب الشعب الفلسطيني.
وسط هذه التعقيدات، جاءت حادثة منع تأشيرات الولايات المتحدة للرئيس الفلسطيني محمود عباس من إلقاء كلمته في الأمم المتحدة لتكشف بجلاء عن انحياز الولايات المتحدة الكامل لحليفتها إسرائيل، ولتؤكد أن واشنطن تنظر إلى الملف الفلسطيني من زاوية ضيقة تقتصر على التهدئة وإدارة الأزمة، بدلًا من الانخراط في مسار سياسي جاد يفضي إلى حل عادل. هذا المنع لم يكن مجرد إجراء بروتوكولي، بل رسالة سياسية مفادها أن صوت السلطة الفلسطينية لا يجب أن يكون مسموعًا في المحافل الدولية كما كان من قبل، وأن المعادلة الحالية باتت محصورة بين قوة السلاح التي تفرضها إسرائيل، ومحاولات الوسطاء الإقليميين والدوليين لتطويق تداعيات الحرب إنسانيًا وأمنيًا.
الخلاصة أن المشهد في غزة اليوم يختصر مأزقًا معقدًا: حماس تسعى نحو هدنة مؤقتة دون أن تفقد موقعها السياسي والعسكري، إسرائيل تمضي في رهاناتها على التصعيد تحت ضغط حسابات نتنياهو الشخصية وتحالفه مع اليمين المتطرف، الولايات المتحدة تتعاطى مع الأزمة بمنطق الصفقات المؤقتة، والسلطة الفلسطينية تُقصى من مسرح القرار الدولي. وفي ظل هذا الواقع المتشابك، يبقى الدور العربي، خصوصًا المصري، هو الضامن الوحيد لإبقاء أي تسوية ممكنة على قيد الحياة، ومنع تحولها إلى مجرد "صفقة هشة" تكرس الأمر الواقع بدل تغييره.