أخبار عاجلة

داعش بعد الهزيمة.. صناعة الوهم واستدعاء «النصر المؤجل»

داعش بعد الهزيمة.. صناعة الوهم واستدعاء «النصر المؤجل»
داعش بعد الهزيمة.. صناعة الوهم واستدعاء «النصر المؤجل»
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

بعد مرور أكثر من ست سنوات على إعلان هزيمة تنظيم "داعش" ميدانياً في العراق وسوريا (2017–2019)، عادت أخبار التنظيم مجدداً لتتصدر المشهد الأمني.
ورغم أن سقوط "الخلافة المكانية" آنذاك اعتُبر نهاية لمرحلة خطيرة من العنف، إلا أن الأحداث الأخيرة كشفت أن الفكرة لم تُستأصل من جذورها، وأن التنظيم ما زال قادراً على إعادة إنتاج نفسه في جيوب صغيرة ومتفرقة.
إحدى أبرز المحطات جاءت من مدينة الباب شرق حلب، حيث نفذت قوات التحالف الدولي بالتنسيق مع وحدات مكافحة الإرهاب الكردية عملية إنزال جوي استهدفت خلية للتنظيم.
أهمية هذه العملية أنها وقعت في منطقة خاضعة للجيش الوطني الموالي لتركيا، ما يعكس قدرة التنظيم على التغلغل في مناطق متشابكة النفوذ، وعلى إحياء شبكات نائمة رغم القبضة الأمنية.
بعد أيام قليلة فقط، نفذت القوات الأمريكية عملية نوعية في ريف إدلب، استهدفت قيادياً بارزاً من داعش وُصف بأنه "هدف عالي القيمة".
المعلومات أشارت إلى أنه عراقي الجنسية ومتزوج من فرنسية، ما يبرز البعد العابر للحدود في بنية التنظيم، ويؤكد أن عملية إعادة الهيكلة لا تزال مستمرة خلف الكواليس.
مقتل هذا القيادي لم يُضعف الرسالة، بل أبرز أن التنظيم ما زال يحتفظ بصفوف قيادية قادرة على الحركة والتنظيم.
بالتوازي مع تلك الضربات، نفذ داعش هجوماً انتحارياً على حاجز أمني في مدينة الميادين بدير الزور، أسفر عن مقتل عنصر أمني سوري.
هذا الهجوم لم يكن مجرد عملية معزولة، بل حمل دلالات أعمق: عودة أسلوب العمليات الانتحارية الذي ارتبط بمرحلة تمدد التنظيم بين ٢٠١٤ و٢٠١٧، ورسالة بأن داعش قادر على تجنيد مقاتلين مستعدين للموت، حتى في ظل حالة التراجع.
في ظل هذه الوقائع، يصبح الإعلام – وبخاصة صحيفة النبأ – أداة مركزية لتعويض الخسائر الميدانية. فالافتتاحيات تشتغل على إعادة شحن الأتباع، وتحميل الأمة الإسلامية مسئولية "التخاذل" بدلاً من الاعتراف بالهزائم التنظيمية.
هذا ما جاء في افتتاحية العدد ٥٠٩ الصادر مساء الخميس ٢١ أغسطس ٢٠٢٥، محملا بخطاب يهدف إلى تثبيت صورة "الطائفة المنصورة"، حتى لو كانت الوقائع على الأرض تشير إلى عكس ذلك.
هكذا، تتشكل صورة مركبة: داعش لم يعد قادراً على إدارة "دولة" كما فعل سابقاً، لكنه في المقابل يظل قادراً على التخفي، تكوين الخلايا، وضرب خصومه بهجمات مباغتة.
افتتاحية النبأ تأتي في هذا السياق كأداة لإعادة بناء الشرعية الأيديولوجية، عبر خطاب تعبوي يلقي اللوم على الأمة، ويصور النصر كقدر إلهي مؤجل لا يتحقق إلا عبر القتال. وبهذا، يحاول التنظيم أن يظل "حاضراً" في الوعي رغم خسارته للواقع الميداني.
الدلالات
الافتتاحية تبدأ بتصوير النصر باعتباره وعداً إلهياً ثابتاً لا يتخلف، مستندة إلى قوله تعالى: {ولينصرن الله من ينصره}. لكن هذا النصر، وفقاً للنص، لا يتحقق إلا عبر "القتال في سبيل الله صوناً للتوحيد ومحقاً للشرك".
هنا يتم تضييق مفهوم النصرة إلى بعد عسكري حصري، مع استبعاد أي دور لبقية أشكال العمل الإسلامي، سواء كان دعوياً أو اجتماعياً أو سياسياً.
النص يربط بين رفعة كلمة الله وبين حمل السلاح حصراً، فيقول: "فالسبيل حتى يكون الدين كله لله... هو الجهاد والقتال في سبيل الله تعالى، ولا سبيل غيره يحقق هذه الغاية".
بهذا التوصيف، يتم حصر الدين في العنف المسلح، وإلغاء التنوع الذي عرفه الإسلام تاريخياً من تعليم، إصلاح اجتماعي، أو بناء حضاري. إن هذا الاختزال يعكس منهجية انتقائية في التعامل مع النصوص الشرعية.
الافتتاحية تعيد إحياء مفهوم "الهجرة في سبيل الله" باعتبارها شرطاً من شروط النصر، مؤكدة أن الهجرة باقية ما دام هناك قتال مع الكفار.
هذا الطرح يوازي دعوات الحركات الجهادية القديمة التي ربطت الهجرة بالخلاص الديني والسياسي، وهو تذكير مقصود لأتباع التنظيم بأهمية الانتقال إلى "مناطق التمكين"، حتى وإن كانت اليوم مجرد جيوب صحراوية أو ملاذات سرية.
من الدلالات البارزة أيضاً تركيز الافتتاحية على "الثبات على الدين ولو خالف الناس أجمعون"، مستشهدة بقول ابن مسعود: "لا يكن أحدكم إمعة يقول: أنا مع الناس"، وتحذيرها من الانسياق وراء "الأكثرية". هذه الدعوة تصب في استراتيجية التنظيم لتأهيل أفراده نفسياً لقبول العزلة، واعتبار قلة العدد دليلاً على الحق، في مقابل تخوين المجتمع الأوسع.
النص يربط بين تحقيق النصر و"اجتماع المسلمين حول إمام واحد وراية واحدة"، مع رفض كل "الحدود الوهمية والعصبيات القومية والوطنية والحزبية".
هذه الدعوة هي إعادة تدوير لمفهوم "الخلافة الجامعة" الذي يحاول داعش أن يعيد تسويقه، رغم انهيار تجربته الميدانية.
وفي هذا الإطار، يُقدَّم التنظيم باعتباره المؤهل الوحيد لقيادة هذه الوحدة الإسلامية المنشودة.
وأخيراً، يبرز النص العلاقة بين "التوكل على الله" وبين "الجهاد بالمال والإعداد"، مستشهداً بقصة عثمان بن عفان وتجهيزه جيش العسرة.
الرسالة هنا مزدوجة: من جهة دعوة الأغنياء والداعمين لتمويل المعارك، ومن جهة أخرى ترسيخ فكرة أن النصر لا يأتي إلا عبر الدماء والإنفاق معاً.
وهكذا يتحول النص إلى أداة لتعبئة الموارد البشرية والمالية معاً تحت لافتة "النصر الإلهي".
الرسائل المسكوت عنها
أول ما يلفت الانتباه في هذه الافتتاحية هو غياب أي إشارة إلى الهزائم الكبيرة التي مُني بها التنظيم خلال الأعوام الأخيرة في سوريا والعراق، أو حتى في أفغانستان وأفريقيا حيث فقد قيادات ومجموعات مهمة.
بدلاً من ذلك، يختار النص التغطية على هذه الخسائر بخطاب تعبوي يتحدث عن "وعد الله بالنصر" وضرورة "الثبات حتى يأتي أمر الله". هذه الصياغة لا تقدم اعترافاً بالواقع، بل تصنع صورة بديلة توحي بأن الانتكاسات مجرد ابتلاءات مؤقتة في طريق "التمكين القادم".
النص يركز على أن النصر "مؤجل لكنه محتوم"، مستشهداً بالآية: {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا}.
عبر هذا الاستخدام الانتقائي، يتم استبدال واقع الهزيمة بخطاب عن "الصبر والمصابرة" واليقين بقدوم النصر.
الرسالة هنا أن ما يعيشه التنظيم من حصار وتشتيت ليس فشلاً استراتيجياً، بل مرحلة طبيعية في مسار تاريخي ينتهي لا محالة بـ"التمكين".
الافتتاحية تعلن بشكل ضمني أن نصرة الله مقصورة على من يقاتل تحت راية التنظيم، فتقول: "فلا نصر للأمة حتى تنصر ربها سبحانه وتعلي كلمته على الوجه الذي ارتضاه".
هذا الإطار يُقصي جميع أشكال التدين أو الاجتهاد الإسلامي الأخرى، ويحوّل الخلاف مع داعش إلى خيانة لله نفسه. بهذا المنطق، من لا ينخرط في مشروع التنظيم يعدّ في خانة "المخذلين" أو "المبتدعين".
هذا الاحتكار يقود بطبيعة الحال إلى نزعة تكفيرية واضحة. إذ يُقدَّم المسلم الذي لا يقاتل في صفوف التنظيم كعائق أمام النصر، أو متسبب في الهزيمة، بل وحتى كمنحرف عن الدين.
فالافتتاحية تقول: "لا نصر للأمة حتى يكون الدين كله لله وحتى ينتهي الكافرون عن كفرهم". هذا الخطاب يحول المسلمين المخالفين لداعش إلى "خصوم عقائديين" لا يقلّون خطراً عن غير المسلمين.
من اللافت أيضاً أن النص لا يترك أي مجال لخيارات سلمية أو إصلاحية داخل المجتمعات الإسلامية. فلا حديث عن التعليم، ولا عن الدعوة، ولا عن الإصلاح الاجتماعي أو السياسي. بدلاً من ذلك، يقدَّم خيار واحد حصري: "الجهاد والقتال في سبيل الله ولا سبيل غيره يحقق هذه الغاية".
هذا الإقصاء يحرم المتلقي من التفكير في مسارات أخرى، ويضعه أمام خيار ثنائي صارم: إما القتال أو الخيانة.
في النهاية، الرسالة المسكوت عنها الأكبر هي أن التنظيم يريد حصر الأمة كلها في مسار العنف، باعتباره الطريق الوحيد للخلاص والنصر. النص يمرر فكرة أن كل تأخير للنصر سببه تقاعس المسلمين، لا أخطاء التنظيم ولا جرائمه.
وبذلك، ينجح في قلب الطاولة: الهزائم ليست دليلاً على فشل "المشروع الداعشي"، بل على "خذلان الأمة". هذا التلاعب الخطابي هو جوهر الدعاية التي تسعى لإدامة الصراع واستدامة العنف.
البعد النفسي والإيديولوجي
النص يضع الهزائم المتلاحقة التي مني بها التنظيم في العراق وسوريا على عاتق الأمة الإسلامية جمعاء، لا على عاتق قياداته أو استراتيجياته الفاشلة. فهو يقول: "تتطلع أعناق المسلمين للنصر وتتوق نفوسهم إليه، لكن القليل من يبادر... والكثيرون صاروا سبباً في إعاقته وتأخيره".
بهذا، يُعزز الخطاب فكرة أن الأمة بأكملها متواطئة في الهزيمة لأنها تخلت عن "واجب الجهاد". هذه المظلومية الجمعية تشحن أتباع التنظيم بالغضب والإحباط، وتدفعهم لمزيد من الانخراط في مشروع العنف.
الافتتاحية تبني ثنائية واضحة بين "الطائفة المنصورة" – أي داعش – و"الجماهير المتخاذلة" التي اختارت الجلوس في مقاعد "المشجعين أو المنتقدين".
هذه الثنائية تُبرز التنظيم باعتباره حارس الدين ووكيل الله على الأرض، فيما تُشيطن بقية المسلمين وتُحيلهم إلى خانة الخيانة أو العجز. نفس الثنائية تُعزز لدى الأتباع شعوراً بالتفوق الأخلاقي والديني، وترسخ قناعة أن داعش وحده يمثل الإسلام الصحيح.
النص يستحضر رموزاً قوية من التاريخ الإسلامي، مثل قصة جيش العسرة وموقف عثمان بن عفان في تجهيز الجيش بألف دينار، حيث يقول: "ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم".
هذا الاستدعاء التاريخي لا يهدف فقط إلى إضفاء الشرعية على الخطاب، بل إلى تحميل الأتباع مسؤولية تقليد تلك النماذج، أي أن التضحية بالمال والروح واجب مستمر، ومن يتخلف عنه يكون قد خان الله ورسوله.
الافتتاحية تجعل من "الهجرة" علامة فاصلة بين أهل الحق وأهل الباطل. إذ تُورد حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار". باستدعاء هذه الرمزية، يُقدَّم ترك الديار والالتحاق بصفوف داعش ليس مجرد خيار، بل شرطاً لازماً لنيل شرف النصرة.
هنا يتحول مفهوم الهجرة إلى أداة ضغط نفسي على الأتباع والمناصرين، خاصة من الشباب الذين يعيشون شعور التهميش أو البحث عن معنى لحياتهم.
النص يوحي بأن قلة قليلة – هم مقاتلو داعش – سيبقون ثابتين على الحق حتى "يأتي أمر الله". هذا التوصيف يعيد إنتاج مفهوم "الطائفة المنصورة" الذي يتكرر في أدبيات السلفية الجهادية، حيث تُقدم الجماعة الصغيرة بوصفها الصفوة المختارة التي تحافظ على الدين رغم تخاذل الأكثرية.
هذه الأسطورة تزرع في نفوس الأتباع شعوراً بالنخبوية والاصطفاء الإلهي، وهو ما يعوضهم عن واقع الهزائم الميدانية.
في ظل الخسائر التي يواجهها التنظيم على الأرض، يلجأ النص إلى إنتاج صور بطولية بديلة. فيُكثر من الحديث عن "الثبات"، "التضحية"، و"الاستقامة على الحق"، ليحوّل الهزيمة إلى فرصة لإظهار التفوق الروحي والأخلاقي.
بهذا الأسلوب، تُغطى الهزائم العسكرية ببطولات رمزية تعزز لدى الأتباع إحساساً بالانتصار المعنوي، وتمنعهم من الشعور بالانكسار أو التفكير في الانشقاق عن التنظيم.
الأثر على تنامي الإرهاب
الافتتاحية تبدأ بالتأكيد على أن المسلمين يتطلعون للنصر لكنهم تأخروا عن طلبه، وتربط ذلك مباشرة بفريضة "القتال في سبيل الله" باعتباره العامل الأول لتحقيق النصر.
هذا الخطاب يُقدَّم للخلايا النائمة في العراق وسوريا كرسالة واضحة: المعركة لم تنته بعد. فحتى مع خسارة الأرض والقيادات، يبقى الأمل قائماً ما دام "الجهاد مستمراً".
وبهذا، تمنح الافتتاحية عزاء نفسياً للأتباع وتمنعهم من الاستسلام، بل تدفعهم لمواصلة العمليات الصغيرة والانتحارية.
النص يربط بين تأخر النصر و"تخاذل المسلمين" عن الجهاد، وهو ما يبرر استمرار العمل العسكري بلا سقف زمني. العبارة: "فلا نصر للأمة حتى تنصر ربها وتعلي كلمته على الوجه الذي ارتضاه"، تؤسس لفكرة أن الهزيمة لا تعني النهاية، بل هي ابتلاء مؤقت قبل "التمكين".
هذا الإطار الفكري يضمن بقاء الخلايا النائمة نشطة، إذ ترى نفسها جزءاً من مسار طويل لن ينتهي إلا بالنصر.
الافتتاحية لا تُخاطب الداخل السوري والعراقي فقط، بل توجّه رسائلها إلى ساحات جهادية أخرى. فهي تؤكد أن النصر لا يتحقق إلا بالدماء والجهاد المسلح، مستشهدة بآيات مثل: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة}.
مثل هذا الطرح يُقدَّم كـ"دليل شرعي" للفصائل المرتبطة بداعش في أفريقيا (الساحل، الصومال، نيجيريا) أو في آسيا (خراسان، الفلبين)، مما يشجعها على استنساخ التجربة الداعشية تحت غطاء الشرعية الدينية.
الحديث عن "الهجرة" و"الجهاد بالمال" ليس موجهاً حصراً للمقاتلين المحليين، بل أيضاً للمتعاطفين والمناصرين خارج المنطقة. النص يقول: "الهجرة باقية ما قوتل الكفار... والجهاد بالمال من أوسع أبواب الجهاد".
هذه العبارات تعني أن كل مسلم – أينما كان – قادر على المشاركة، إما بالسفر إلى ساحات القتال أو بتمويلها. بهذا الأسلوب، يتحول الخطاب إلى أداة لتوسيع الشبكة العابرة للحدود، وجذب موارد بشرية ومالية جديدة.
من خلال اختزال الدين في "القتال والدماء"، تساهم الافتتاحية في ترسيخ صورة الإسلام في الغرب على أنه دين مرتبط بالعنف. فهي تتجاهل أي أبعاد اجتماعية أو إصلاحية أو سلمية للدين، وتصر على أن "كلمة الله لا تكون هي العليا إلا بالقتال"، كما ورد صراحة في النص.
مثل هذا الخطاب يوفر ذريعة جاهزة لليمين المتطرف في أوروبا وأمريكا لتبرير الإسلاموفوبيا، مما يوسع دائرة العداء ضد المسلمين الأبرياء.
حين يغذي خطاب داعش صورة الإسلام المتشدد، ويقابلها رد فعل غربي عبر سياسات عدائية وتمييزية ضد المسلمين، يُنتَج ما يمكن تسميته بدائرة التطرف المتبادل. إذ يجد بعض الشباب المسلم أنفسهم محاصرين بخيارين: الإقصاء في الغرب أو الالتحاق بالجماعات المتطرفة. وبذلك، تحقق افتتاحية مثل هذه أهدافها غير المباشرة: إطالة أمد الصراع عبر إبقاء جذوة "الاستقطاب" مشتعلة بين الشرق والغرب.
القراءة النقدية
افتتاحية النبأ لا يمكن النظر إليها كخطاب وعظي ديني بريء، بل هي أداة أيديولوجية صريحة تهدف إلى إعادة تدوير المشروع الداعشي بعد هزيمته العسكرية.
فهي تقدم نفسها على أنها تفسير لمفاهيم قرآنية، لكنها في الحقيقة تعيد تأويل النصوص بما يخدم مشروعاً سياسياً قائماً على العنف والتكفير. بهذا، يتحول الدين من مجال للهداية والرحمة إلى وقود لمعركة لا تنتهي، حيث يصبح القتال هو الشرط الأوحد للخلاص والنصر.
الافتتاحية تدمج في سطورها بين الدين والسياسة والعنف في معادلة واحدة: "النصر لا يكون إلا عبر الدماء". هذا الدمج يفرغ الإسلام من أبعاده الحضارية والاجتماعية والفكرية، ويحصره في وظيفة عسكرية بحتة.
النتيجة هي إغلاق كل أبواب التجديد والاجتهاد والإصلاح داخل المجتمعات الإسلامية، واستبدالها بخطاب أحادي يرفض التعددية ويرفع شعار "من ليس معنا فهو ضدنا". وبذلك يتحول النص إلى أداة لإقصاء الآخر – سواء كان مسلماً مخالفاً أو غير مسلم – من دائرة الشرعية.
خطورة هذا الخطاب لا تقاس بعدد أتباعه الحاليين أو بقدرة التنظيم على السيطرة الميدانية، بل تكمن في استمراريته كمنظومة فكرية قادرة على العبور من هزيمة إلى أخرى. فحتى مع تراجع داعش في العراق وسوريا.
يبقى هذا الخطاب قادراً على إلهام خلايا صغيرة وشباب يائس في بيئات مأزومة بالبطالة، التهميش، أو الصراعات الطائفية. بكلمات أخرى، ما يحافظ على داعش ليس بالضرورة جغرافيا "الخلافة"، بل الفكرة المتجددة عن أن النصر حتمي وأن الطريق إليه لا يمر إلا عبر السلاح.
من خلال إقصاء البدائل السلمية وتكفير كل من لا ينخرط في مشروعها، تساهم افتتاحية النبأ في إنتاج بيئة فكرية خانقة. فهي لا تعترف بالحوار أو العمل السياسي أو الإصلاح الاجتماعي كطرق للتغيير، بل تصفها كوجوه "مبتدعة" أغرقت الأمة في الهزيمة.
هذا الإغلاق الفكري يترك الشباب في مواجهة خيارين متطرفين: إما الالتحاق بالتنظيم بحثاً عن معنى وكرامة، أو السقوط في العدمية واليأس. وفي الحالتين، يستمر الإرهاب كخطر متجدد محلياً وإقليمياً ودولياً.
افتتاحية النبأ (٥٠٩) تكشف أن داعش يحاول ترميم ذاته عبر الإعلام حين يعجز عن فرض نفسه عسكرياً. الخطاب يحمّل الأمة مسئولية الهزيمة، ويقدّم القتال خياراً أوحد، ويصوّر "النصر المؤجل" كحقيقة مطلقة.
لكن في الواقع، هذا النص يفضح مأزق التنظيم أكثر مما يثبت قوته: فهو عاجز عن مراجعة نفسه، ويعيد إنتاج خطاب مأزوم يقود إلى المزيد من الإرهاب محلياً وإقليمياً ودولياً.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق غضب داخل بيراميدز تجاه محمد الشيبي بعد طرده أمام مودرن سبورت
التالى نقابة الصحفيين المصريين تجدد إدانتها للجرائم الوحشية للعدوان الصهيوني في غزة