اشتعلت أزمة جديدة بين صحيفة شهيرة وبين إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وإدارته، في هذه المرة ممثلة في وزارة الدفاع، البنتاجون، وكانت صحيفة واشنطن بوست قد نشرت تقريرًا مطولًا يكشف اتساع الاستعانة بالخدمات الأمنية التي يحصل عليها وزير الدفاع الأمريكي بيت هيجسِت، فلم تقتصر الحماية المطلوبة على الوزير نفسه، بل توسعت لتشمل عائلته الممتدة، بدءًا من زوجاته السابقة وحتى أولاده في ولايات متعددة، ولفتت الصحيفة إلى أن عدد عملاء وحدة التحقيق الجنائي الأمريكية المكلفين بالحماية الشخصية ارتفع من حوالي 150 إلى أكثر من 500 منذ تولي هيجسِت منصبه في يناير الماضي، وهو تحوّل نادر الحدوث في طبيعة عمل هذه الوحدة، نتج عنه إرجاء دورات التدريب لعدد من المحققين الملتحقين بالوحدة بل وحتى إلغاء بعض التحقيقات الفعلية التي يتولونها.
وكان تقرير البوست قد أشار إلى أن وحدة التحقيقات الجنائية بالجيش (CID) اضطرت إلى سحب مئات العناصر من مهامها الجنائية الأصلية وتحويلهم لحراسة منازل وأفراد عائلة الوزير، الأمر الذي دعا البنتاجون إلى وصف ما فعلته واشنطن بوست بأنه "إفشاء معلومات يعرّض حياة أشخاص للخطر، وفقًا لصحيفة نيويورك بوست.
وفي حين أكدت الصحيفة أن النشر جاء في إطار حق الجمهور في معرفة كيف تُدار الموارد العسكرية ونشر ما يتوجب معرفته عن الإنفاق في هذا القطاع، خاصة أن حماية الوزير استنزفت قدرات وإمكانات ما يزيد على 500 عنصر من وحدة تضم بالكاد 1200 محققًا، بيد أن مسؤولين بالبنتاجون اعتبروا أن نشر تفاصيل دقيقة حول مواقع المنازل وخطوط الحركة اليومية تجاوز كل حدود الصحافة المهنية المسؤولة.
ونقلت صحيفة دايلي بيست عن قيادات عسكرية قولها إن التقرير "أشبه بكشف خارطة طريق لأي جهة معادية" يمكن أن تستغلها لمهاجمة شخصيات رفيعة المستوي، وفي الأثناء، أبدى متحدث البنتاجون شون بارنيل امتعاضًا بالغًا، مؤكدًا أن "الصحافة تملك الحق في النقد، لكنها لا تملك الحق في وضع حياة أطفال مسؤولي الدولة على المحك". ونشرت الصحافة الأمريكية تصريحات مشابهة أيضًا على لسان الناطقة الرسمية باسم الوزارة التي رأت أن صحيفة واشنطن بوست خلطت بين الرقابة المشروعة والكشف غير المسؤول عن معلومات شديدة الحساسية.
بيد أن البنتاجون قلّل من الضجة التي أحدثها التقرير، مؤكدًا أن كل إجراء يتخذ هو بناءً على توصيات الوحدة الأمنية، ولكن الصحفي دان لاموث، كاتب التقرير في واشنطن بوست، رد قائلًا إن ما كُشف ليس سوى صورة مبسطة لواقع ضاغط تعيشه وحدة CID، وإن مسؤولي التحرير تعمدوا حذف معلومات حساسة بعينها. وأضاف أن تركيز التحقيق كان على "أزمة الموارد" لا على عناوين المنازل أو جداول العائلة، مشددًا على أن أي حديث عن "تعريض مباشر" لحياة الأفراد ليس سوى "محاولة سياسية لإسكات الصحافة".
وفي حين اندلع الجدل في الأوساط الإعلامية، تزايدت الضغوط في الكونجرس، حيث طالبت النائبة الجمهورية آنا بولينا لونا بفتح تحقيق فيدرالي لمعرفة من سرّب المعلومات، معتبرة أن "الأمن القومي ليس ساحة للمناورات الصحفية". كما دعا بعض الأعضاء الديمقراطيين إلى موازنة الموقف، مؤكدين أن القضية تطرح سؤالًا جادًا حول ما إذا كان الجيش يُسخّر موارده في الاتجاه الصحيح أم يهدرها على أنشطة ليس من ورائها طائل.
لكن اللافت في هذه الأزمة هو أنها تأتي في وقت شددت فيه وزارة الدفاع قيودها على عمل الصحفيين داخل البنتاجون منذ مايو الماضي، إذ بات دخول الصحفيين يتطلب موافقات مسبقة صارمة، وهو ما وثّقته رويترز باعتباره تحولا يضيّق الخناق على الشفافية. وهنا يرى خبراء الإعلام أن الصدام الأخير مع واشنطن بوست ليس حادثة فردية أو معزولة، بل جزء من مسار متصاعد نحو تقييد التغطية العسكرية.
وفي الأثناء، انشغل محللون بالشطر الآخر من القصة: الضغط الهائل على التحقيقات الجنائية بالجيش (CID، فبينما يُفترض أن يكرّس المحققون جهودهم لمكافحة الجرائم الكبرى داخل الجيش، وجدوا أنفسهم موزعين على مهام حراسة شخصية ومرافقة أبناء الوزير إلى المدرسة وتأمين رحلات عائلية إلى مباريات بيسبول، ووفقًا لصحيفة ستارز آند سترايبس، يرى بعض الخبراء أن هذا الانحراف عن المهام الأصلية قد يترك ثغرات أمنية حقيقية في ملفات الفساد والجرائم العسكرية، الأمر الذي قد يفاقم أزمات مؤسسية في المستقبل.
ولكن الرأي العام الأمريكي ظل منقسمًا: فهناك من يتبنى رواية البنتاجون بأن الصحيفة تجاوزت الخطوط الحمراء وعرضت حياة أفراد للخطر، وهناك من يرى أن الصحافة، في تقليدها التاريخي لمحاسبة السلطة، قامت بدورها الطبيعي عبر كشف التناقض بين الأولويات الأمنية المعلنة والواقع العملي.
وذكرت نيويورك بوست أن هذا التوسّع الأمني يُعزى، جزئيًا، إلى تهديدات واقعية، مثل تهديد قنبلة استهدف منزل وزير الدفاع الأمريكي في تينيسي، بالإضافة إلى تصاعد العنف السياسي واعتداءات سابقة بالتزامن مع محاولات اغتيال شابت حملة ترامب الرئاسية.
وفي حين يقتضي المنطق الحماية المُحْكَمة، فإن بعض القرارات نقلت الأمر إلى ساحات عامة بلا ترتيبات مسبقة: في يوليو، قرّر الوزير وعائلته حضور مباراة لواشنطن ناشيونالز من المقاعد العامة، بدلًا من الجناح الخاص الآمن، مما اضطر فرق الحماية إلى تغطية منطقة واسعة ومزدحمة.