اقتصاد البيانات لم يعد مجرد تعبير إعلامي أو توصيف أكاديمي بل تحول إلى واقع استراتيجي يفرض نفسه على الحكومات والشركات والأفراد حيث أصبحت البيانات المورد الأكثر قيمة في العالم متجاوزة في أهميتها النفط الذي ظل لعقود طويلة عنوانا للثروة والسلطة.
لقد كان النفط في القرن العشرين هو مصدر الطاقة الذي يحرك المصانع والجيوش والنقل ويمثل عصب الاقتصاد العالمي أما اليوم فإن البيانات هي التي تحرك الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي والتجارة الإلكترونية وصناعة القرار في مختلف المجالات ما جعلها بحق نفط القرن الجديد.
تدفق البيانات في كل لحظة من حياتنا اليومية من خلال الهواتف الذكية والمعاملات البنكية والتسوق عبر الإنترنت وتطبيقات الصحة والتعليم والعمل عن بعد جعل العالم يعيش في محيط لا متناه من المعلومات تشير التقديرات الحديثة إلى أن حجم البيانات المنتجة عالميا يتضاعف كل عامين تقريبا وأن العالم ينتج مئات المليارات من التيرابايت سنويا، وهو ما يعكس حجم الثورة التي يقودها هذا المورد غير الملموس فالقيمة ليست في البيانات الخام بل في القدرة على معالجتها وتحويلها إلى معرفة قابلة للاستخدام وصناعة قرارات أكثر دقة ما جعل الشركات التي تمتلك التكنولوجيا والبنية التحتية لتحليل البيانات تحتل المراتب الأولى في القيمة السوقية عالميا وتحولت إلى قوى عابرة للقارات توازي في نفوذها دولا كبرى.
التشابه بين النفط والبيانات يلفت الانتباه فكلاهما يحتاج إلى استخراج ومعالجة لتحقيق القيمة النفط الخام لا يصلح للاستخدام المباشر حتى يكرر ويحول إلى منتجات نهائية والبيانات بدورها لا قيمة لها إلا إذا تم تحليلها وربطها بخوارزميات الذكاء الاصطناعي لتقديم خدمات وتوقعات وحلول تضيف قيمة اقتصادية وأمنية واجتماعية كما أن السيطرة على البنية التحتية للبيانات تشبه في طبيعتها السيطرة على أنابيب النفط وأسواق الطاقة سابقا حيث أصبحت مراكز البيانات الضخمة والسحابات الرقمية بمنزلة الحقول الجديدة التي تحدد النفوذ العالمي الصراع الدولي على البيانات بلغ ذروته مع بروز الولايات المتحدة كقوة مهيمنة عبر شركات التكنولوجيا العملاقة التي تسيطر على نسبة كبيرة من شبكات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث وخدمات الحوسبة السحابية.
ففي حين اتخذت الصين مسارا مختلفا يقوم على بناء جدار رقمي يحمي بيانات مواطنيها ويجعلها موردا وطنيا تستخدمه الدولة في تطوير الذكاء الاصطناعي وتعزيز الأمن القومي،اختار الاتحاد الأوروبي فرض منظومة تشريعية صارمة من خلال اللائحة العامة لحماية البيانات التي وضعت معايير دولية للخصوصية والشفافية أما بقية دول العالم خاصة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية فما زالت في موقع المستهلك للبيانات إذ تنتج كميات هائلة منها لكن الشركات الأجنبية هي التي تقوم بتخزينها وتحليلها وجني الأرباح منها تاركة الدول المصدرة مجرد مستودعات معلومات دون قدرة على الاستفادة الكاملة من هذا.
العالم العربي رغم تأخره في هذا السباق بدأ يلتفت إلى أهمية الاستثمار في اقتصاد البيانات حيث أطلقت دول الخليج مشاريع لبناء مراكز بيانات ضخمة وخدمات سحابية محلية كجزء من خطط التنويع الاقتصادي لما بعد النفط وتتنافس السعودية والإمارات وقطر في جذب شركات التكنولوجيا العالمية لتأسيس بنية تحتية متقدمة بينما تسعى مصر والأردن والمغرب للتحول إلى مراكز إقليمية لتكنولوجيا المعلومات وخدمات التعهيد بما يوفر فرص عمل للشباب ويجذب استثمارات أجنبية غير أن التحدي الأكبر أمام المنطقة يظل في غياب تشريعات واضحة لحماية الخصوصية وحقوق المستخدمين إضافة إلى محدودية القدرات المحلية في مجالات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة وهو ما يجعل الفجوة تتسع مع الاقتصادات الكبرى.
المستقبل الاقتصادي للبيانات يتضح أكثر عندما نربطها بالتطورات التكنولوجية فالذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يعمل من دون قواعد بيانات ضخمة والتجارة الإلكترونية تعتمد على تحليل سلوك المستهلكين وتوقع أنماط الشراء وشبكات النقل والخدمات اللوجستية الذكية تحتاج إلى بيانات دقيقة في الوقت الفعلي.
أما الأمن القومي فقد أصبح يعتمد على تحليل البيانات لرصد التهديدات السيبرانية ومكافحة الإرهاب وغسل الأموال وحتى في المجال الصحي حيث أثبتت جائحة كورونا أن الدول التي امتلكت بنية بيانات متطورة استطاعت إدارة الأزمة بكفاءة أكبر من خلال تتبع الإصابات وتوزيع الموارد وتوقع موجات التفشي الجديدة كل هذه الأمثلة تعكس أن البيانات ليست مجرد أداة تقنية بل أساس للنمو الاقتصادي وحماية الأمن الوطني وصناعة النفوذ الدولي.
غير أن القيمة الاقتصادية للبيانات لا تخلو من مخاطر فالتضخم في حجمها يطرح إشكالية الخصوصية والاختراقات الأمنية كما أن احتكار شركات محدودة للبنية التحتية يعزز من عدم المساواة الاقتصادية بين الدول ويمنح لتلك الشركات سلطة قد تفوق سلطات الحكومات وهذا يطرح تساؤلات حول ضرورة وجود أطر تشريعية دولية لتنظيم تدفق البيانات وحمايتها بما يحقق التوازن بين حرية الابتكار وحقوق الأفراد في الخصوصية العالم العربي إذا أراد أن يكون جزءا فاعلا في اقتصاد البيانات فعليه أن يتحرك في ثلاثة مسارات متوازية الأول تطوير تشريعات عصرية لحماية البيانات ومنح الثقة للمستثمرين والمستهلكين الثاني الاستثمار في البنية التحتية الرقمية من مراكز بيانات وحوسبة سحابية وربطها بشبكات عالية السرعة والثالث بناء قدرات بشرية قادرة على تحليل البيانات وتطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي بما يضمن عدم الارتهان إلى الخارج وإلا فإن المنطقة ستظل مصدرا خاما للبيانات دون أن تجني قيمة مضافة توازي ما فعلته مع النفط لعقود طويلة.
في النهاية يمكن القول إن القرن الحادي والعشرين يشهد تحولا عميقا يجعل البيانات هي الوقود الأساسي للاقتصاد الرقمي ومن يمتلك القدرة على إنتاجها وتخزينها وحمايتها وتحويلها إلى خدمات ومنتجات سيكون في موقع القيادة الاقتصادية والسياسية تماما كما كانت الدول النفطية بالأمس والسؤال الذي سيحدد مصير الاقتصادات النامية والعربية هو هل ستظل مجرد مستودعات بيانات لغيرها أم ستتمكن من تكرير بياناتها محليا وصناعة قيمة جديدة تجعلها رقما صعبا في معادلة اقتصاد القرن الجديد.