ما يزال الخلاف متصاعدًا بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب والهند، كاشفًا أبعادًا اقتصادية وسياسية غير معلنة تقف وراء الأزمة، إذ تشير التقديرات إلى أن الخلاف المعلَن تكمن خلفه أمور أخرى ما تزال في طي الكتمان الرسمي.
وفي هذا السياق، يوضح مستشار تحرير منصة الطاقة المتخصصة (مقرّها واشنطن)، خبير اقتصادات الطاقة الدكتور أنس الحجي، أن تصريحات الرئيس الأميركي الأخيرة بشأن التجارة والنفط مع الهند تُخفي وراءها سلسلة من التحركات غير المفهومة.
ولفت الحجي إلى أن تصريحات ترمب قد تفتح الباب لتصعيد أكبر في العلاقات بين واشنطن ونيودلهي، موضحًا أن الأسباب المعلَنة تتعلق بالرسوم الجمركية والاستيراد من روسيا، لكن جذور التوتر تمتدّ لقضايا أعمق، كالأغذية المعدّلة جينيًا، والأبعاد الجيوسياسية للصراع الهندي الباكستاني.
وفيما يبدو أن النفط كان النقطة التي فجّرت الخلاف، إذ كشف الحجي تحركات عسكرية وتصريحات رسمية أربكت الأسواق العالمية، ودفعت ترمب إلى خطوات تصعيدية جديدة ضد الهند.
جاء ذلك خلال حلقة جديدة من برنامج "أنسيات الطاقة"، قدّمها أنس الحجي عبر مساحات منصة التواصل الاجتماعي "إكس" بعنوان: "النفط بين ترمب والهند.. وغاز النفط المسال بين أوبك ووكالة الطاقة الدولية".
تراكمات قديمة وانفجار مفاجئ
قال أنس الحجي، إن العلاقة بين ترمب والهند يبدو وكأن وراءها تراكمات قديمة، حيث كانت متوترة منذ البداية، رغم تحالفات واشنطن الآسيوية.
وأرجع ذلك إلى قيود هندية مشددة على البضائع الأميركية، ورفض شعبي واسع في الهند للمنتجات المعدلة جينيًا، خاصة في القطاع الزراعي.
وأوضح أن من أكثر الأمور التي أثارت استياء ترمب إصرار الهند على منع استيراد الأغذية المعدلة جينيًا، وهو ما تراه الولايات المتحدة قضية تجارية مهمة، بينما يراه الهنود قضية علمية وثقافية، وربما دينية أيضًا.

وأشار أنس الحجي إلى أن الهند تُعدّ من أكثر دول العالم تشددًا في القيود الجمركية على الواردات، إذ تصل الضرائب على المنتجات الأميركية إلى نحو 50%، مقابل 3% فقط من الجانب الأميركي، ما أثار غضب ترمب.
لكن التصعيد الأكبر -بحسب الحجي- بدأ بعد العمليات الإرهابية في الهند، التي تبعتها حرب محدودة مع باكستان، ووقوف الولايات المتحدة حينها إلى جانب إسلام أباد، وهو ما عَدَّتْه نيودلهي تغيرًا في ميزان التحالفات.
وأضاف: "لا نعرف بالضبط ما الذي أغضب إدارة ترمب في تلك اللحظة، لكن الأكيد أن الموقف الأميركي بعد الحرب زاد من الفجوة مع الهند، خاصة في ظل التوترات مع الصين وسعي الشركات الأميركية لمغادرتها إلى السوق الهندية".
وتابع: "في ذروة الأزمة، فاجأ الرئيس الأميركي الجميع بالتركيز على ملف النفط، واتّهام الهند بأنها تدعم روسيا من خلال شراء كميات ضخمة من نفطها، وتحويل الموضوع من تجاري اقتصادي إلى مسألة سياسية متصلة بالحرب في أوكرانيا".
ورأى أن توقيت الحملة الإعلامية والسياسية ضد الهند لم يكن عشوائيًا، بل تزامنَ مع فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات جديدة على شركة نايارا الهندية، المملوكة جزئيًا لروسيا، وهو ما سبَّبَ بلبلة في السوق العالمية.
النفط الروسي في قلب العاصفة
لفت أنس الحجي إلى أن ترمب تعمّد تصعيد الموقف بعد تغريدات متكررة على منصة "إكس" هاجم فيها الهند، متّهمًا إياها بتمويل الحرب في أوكرانيا من خلال استيراد النفط الروسي وتكريره ثم تصديره للغرب.
وقال، إن هذا التحوّل المفاجئ في الخطاب من الضرائب إلى النفط يؤكد أن الخلاف أكبر من مجرد رسوم جمركية، خصوصًا بعد أن انسحبت 3 ناقلات كانت متجهة إلى مصفاة نايارا بسبب العقوبات.
وأوضح خبير اقتصادات الطاقة أن المصفاة المذكورة تستورد النفط الروسي وتكرر منتجاته ثم تُصدِّر جزءًا منها لأوروبا، لكن بعد العقوبات، انسحب رئيس الشركة -وهو إسباني الجنسية- تفاديًا للمساءلة القانونية في بلاده.
وأضاف: "وكالة بلومبرغ ضخّمت الموضوع بشكل كبير، وربطت بين انسحاب الناقلات واستقالة الرئيس التنفيذي، رغم أن الواقع يوضح أن أكثر من 60 ناقلة نفط كانت تعمل كالمعتاد في تلك المنطقة".
كما أشار إلى أن تغطية بلومبرغ أعطت انطباعًا خاطئًا بأن المصافي الهندية توقفت عن التعامل مع النفط الروسي، في حين إن الواقع هو أن التخزين كان ممتلئًا نتيجة البلبلة، وهو ما عطّل عمليات التفريغ يومين فقط.
وتابع: "نشرت تغريدة توضح أن 4 ناقلات كانت تنتظر في عرض البحر، لكنها الآن كلّها فارغة، وبعضها عادَ باتجاه روسيا، بينما بقيت المصافي تعمل وتصدِّر المنتجات كالمعتاد".
وانتقد ازدواجية المعايير في تصريحات ترمب، قائلًا: "إذا كانت الهند تموّل الحرب بشراء النفط الروسي، فالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يفعلان الأمر ذاته.. فـ12% من واردات الغاز الأوروبي الشهر الماضي جاءت من روسيا".
وأكد أن أميركا نفسها ما تزال تستورد اليورانيوم المخصَّب من روسيا، ويعتمد 15% من محطاتها النووية عليه، مشددًا على أن اتهام الهند بالدعم المالي لروسيا يحمل طابعًا انتقائيًا ومزدوج المعايير.
ترمب يهدد.. والهند ترد بالمنطق
كشف أنس الحجي أن ترمب يهدد، والهند تردّ بالمنطق على تصريحاته، إذ أصدرت وزارة الخارجية الهندية بيانًا أبرزته بطريقة لافتة، إلّا أنه يرى أن "الردّ كان خاطئًا".
وقال: "الرد الهندي كان منطقيًا ومدعومًا بالحقائق، لكن استعمال المنطق مع ترمب لا يُجدي نفعًا، لأنه لا يتعامل بالمنطق، بل بموازين القوة والتهديد، فهو يفهم لغة الضرائب، لا لغة الخطاب الدبلوماسي".
وأكد أن الرئيس الأميركي شعر بالإهانة من استمرار الهند في شراء وتكرير النفط الروسي، ولذلك صعّد بتهديدات جديدة، أهمها فرض رسوم جمركية تفوق 25%، وربما تصل إلى مستويات غير مسبوقة.
كما أشار إلى أن ترمب أعلن نيّته فرض عقوبات إضافية على أيّ جهة تستورد النفط الروسي، وهو تهديد قد يُصعّد الأزمة بشكل غير مسبوق، ويؤثّر في الأسواق العالمية للطاقة.
وأردف مستشار تحرير منصة الطاقة أن إدارة ترمب السابقة، ومن ورائها عدد من وسائل الإعلام الغربية، تحاول تصوير الهند جهةً متورطةً في دعم روسيا، مع تجاهل تامّ لحجم العلاقات التجارية الأميركية-الروسية في مجالات حيوية.
وذكّر الحجي بأن قوانين العقوبات الأوروبية تسمح نظريًا باستيراد المنتجات النفطية من روسيا إذا كُرِّرَت وحُوِّلَت، وهو المنطق المستعمَل سابقًا في قضايا فقهية تتعلق بمنتجات محرّمة إذا تغيّرت طبيعتها.
واختتم تصريحاته قائلًا: "الموضوع سياسي بامتياز، وتحركات ترمب تحمل طابعًا انتخابيًا بالدرجة الأولى، لكن لا يمكن تجاهُل أن هذه التهديدات قد تتسبب باضطرابات كبيرة في سوق الطاقة العالمية خلال الأشهر المقبلة".
موضوعات متعلقة..
اقرأ أيضًا..
المصدر..