في مرحلة معينة من عمرنا، وخصوصًا في فترة المراهقة وبدايات الشباب، بنبدأ نحس إننا كبرنا كفاية، وإننا نعرف نقرّر لنفسنا. بنبدأ نبص للحياة بعين تانية، ونفترض إن اللي حوالينا، خصوصًا أهلنا، مش دايمًا فاهمينا. ومن أكتر الناس اللي بيتعرضوا لسوء الفهم ده… الأم.
بنشوفها بتمنع، بتعترض، بتنصح كتير، فبنفتكر إنها ضدنا. “ليه مش عايزاني أخرج؟”، “ليه رفضت صداقتي للبنت دي؟”، “ليه مش عاجبها لبسي أو تفكيري؟” بنبدأ نحس إنها بتقف في طريقنا، وإنها مش عايزانا نعيش على طريقتنا. بنشوف تدخلها على إنه تحكم… وننسى في وسط الزعل ده إنها أكتر حد بيحبنا.
زي قصة بنت في المدرسة، ارتبطت بصديقة جديدة بسرعة. البنت كانت مبسوطة جدًا، حست إنها لقيت حد بيفهمها أخيرًا. لكن أمها بدأت تلاحظ حاجات مش مريحة، وقالتلها: “ابعدي عنها”. البنت اتضايقت ورفضت، وقالت لأمها إنها بتتسلّط ومش عايزة تشوفها سعيدة. بعد شوية وقت، بدأت المشاكل تظهر، وبدأت الصديقة دي تجرّ البنت لسلوكيات غلط. وساعتها، وبساعتها بس، فهمت البنت إن اللي أمها كانت شايفاه، هي ما كانتش قادرة تشوفه. وفهمت إن كلمة “ابعدي عنها” مكانتش تحكم… كانت حماية.
وفي قصة تانية، شاب كان حلمه يكون لاعب كرة محترف. كان شايف إن المدرسة بتضيّع وقته، وكان مصمّم يسيب التعليم ويتفرّغ للتمرين. أمه رفضت، وأصرّت إنه يكمّل دراسته. فضل حاسس إنها بتحطّ له حدود، وإنها بتمنعه من حلمه. لكن مرت السنين، واتخرج، واشتغل، ولسه بيلعب كورة كهواية. وفي لحظة هدوء، بصّ لها وقال: “كنتي أنقذتيني من قرار كنت هندم عليه”. أدرك وقتها إن اللي شافته أمه، هو ما شافوش. وإن “المنع” ده مكانش كبت، كان مستقبل بتحاول تحافظ عليه.
والقصتين دول، زيهم الآلاف، بتأكد إن كتير من قرارات الأمهات اللي بنشوفها “تدخّل” في لحظتها، بنرجع بعدين نشوفها “رؤية” ما كناش قادرين نستوعبها وقتها.
والعلم بيأكد ده. عالم النفس الأمريكي الدكتور لورانس شتاينبرغ (Steinberg، 2001)، واحد من أهم المتخصصين في علم نفس المراهقة، بيقول في كتابه “المراهقون وأهلهم” إن الخلاف بين الأم وأولادها خلال المراهقة مش دليل على سوء العلاقة، بل دليل على تطوّر طبيعي في رغبة المراهق في الاستقلال، ورغبة الأم في الحماية. بمعنى، لما أمك تعترض على قرار، هي مش بترفضك، هي بترفض الخطر اللي هي شايفاه قبلك.
وكمان، في دراسة نُشرت عام 2013 في مجلة Child Development، تم اكتشاف إن الأمهات عندهم قدرة عالية على التنبؤ بالمخاطر السلوكية والاجتماعية لأولادهم، حتى قبل ما تظهر عليهم مؤشرات واضحة. وده بيُعرف بالحدس الأمومي، واللي وُجد إنه بيساعد الأمهات على حماية أولادهم من صداقات أو مواقف ممكن تؤدي لسلوكيات مؤذية في المستقبل. مش لأنهم عندهم قدرة خارقة، لكن ببساطة لأنهم قضوا سنين بيراقبوا، وبيحبوا، وبيفهموا كل تفصيلة في أولادهم.
وفي جانب تاني، علم النفس الوجودي بيتكلم عن نوع نادر من الحب، اسمه “الحب غير المشروط” (Unconditional Love). وده هو النوع اللي بيوصف حب الأم، بحسب عدد من الباحثين زي كارل روجرز، اللي شاف إن حب الأم من غير شروط بيبني في الطفل الإحساس بالأمان، والثقة بالنفس، وبيقلل من قلقه في اتخاذ القرارات. حتى لو كانت الأم بتصرخ أو بتزعق، فهي بتعمل كده من كتر ما هي خايفة عليك، مش من كره أو غضب. الغضب لحظي، لكن الخوف مستمر… والخوف اللي من حب، بيبقى أشد.
كتير من مشاكل اللبس والمواعيد والموبايل والصحاب مش هي جوهر الخلاف. الجوهر الحقيقي إنك عايز مساحة تقول فيها “أنا حر”، وهي بتحاول تحميك من حدود المساحة دي. إنت شايفها متدخلة، وهي شايفاها حب… ودي واحدة من أكتر الحاجات اللي بتكون صعبة على الطرفين في فترة المراهقة.
بس الوقت دايمًا بيكشف. بتكبر، وتشوف، وتفهم، وتكتشف إن الأم مش كانت بتحاول تسيطر، لكن كانت بتحاول تكون درع. بتدّي لك كل اللي عندها، وبتدعي لك بكل اللي ما قدرتش تدّيه لنفسها. بتتمنى لك تعليم أحسن، حياة أسهل، اختيارات أذكى، وراحة ما عرفتهاش. مش بتقارن، ومش بتقلل منك… بالعكس، هي شايفا فيك نسخة أقوى من نفسها، وبتحب ده.
فلما تختلف معاها، افتكر إن في اللحظة اللي إنت بتفكّر فيها تسيبها أو تعاندها، هي بتكون في أوضتها بتدعي لك، وبتتمنى تكون بخير، حتى لو مش قدّامها.
“مامتك مش ضدك… هي بس شايفه اللي إنت لسه مش شايفه”.
مش مجرد جملة، دي نتيجة سنين من الحياة، ومن دراسات نفسية واجتماعية، ومن قلوب بتحب بصدق… وبتخاف بزيادة.