في الوقت الذي يغلي فيه الشرق الأوسط بأزمات متفاقمة، يطل علينا رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بخطابات ذات طابع توراتي، يروج من خلالها لأفكار توسعية خطيرة تحت شعار "إسرائيل الكبرى". هذه الرؤية، المدفوعة بتحالف وثيق مع تيارات اليمين الديني والقومي المتطرف، لم تعد مجرد أفكار نظرية، بل تحولت إلى مشاريع فعلية تهدد استقرار المنطقة وتغلق الباب نهائيًا أمام فرص السلام.
فبدلًا من البحث عن حلول واقعية للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، يسير نتنياهو في طريق مملوء بالأوهام العقائدية، تترجم على الأرض عبر الاستيطان، والضم، والخطابات المشحونة بالعداء، وإعادة إنتاج التاريخ التوراتي على حساب واقع شعوب حية. هذا النهج لا يهدد الفلسطينيين وحدهم، بل يضع إسرائيل نفسها على حافة عزلة دولية، وانهيار اقتصادي داخلي، وتفكك اجتماعي غير مسبوق. فما هي جذور هذا المشروع؟ ولماذا يتحول اليوم إلى كابوس يهدد الشرق الأوسط بأكمله، بمن فيهم الإسرائيليون أنفسهم؟
رؤية نتنياهو التوراتية: دولة بلا حدود واقعية
أثار بنيامين نتنياهو الجدل مجددًا بتصريحاته حول "إسرائيل الكبرى"، وهو المفهوم الذي يربط الهوية السياسية للدولة بمعتقدات دينية توراتية متطرفة. وفي مقابلة تلفزيونية، عبّر عن إعجابه بخريطة قدمها له المذيع، وصفها بأنها تمثل "أرض الميعاد"، وهي خريطة تتجاوز الأراضي الفلسطينية لتشمل أجزاء من الأردن ولبنان وسوريا ومصر.
ورغم محاولاته تغليف هذا الخطاب بطابع "روحاني" أو "تاريخي"، إلا أن هذه الرؤية تخفي مشروعًا استعماريًا حقيقيًا يعكس جوهر العقلية التوسعية التي تقود اليمين الإسرائيلي. مشروع لم يعد نظريًا، بل تحول إلى سياسات يومية تتمثل في التوسع الاستيطاني، ورفض حل الدولتين، وفرض وقائع على الأرض تقضي على أي أمل بقيام دولة فلسطينية مستقلة.
تحالف مع اليمين المتطرف: توسيع النفوذ تحت غطاء العقيدة
تحالف نتنياهو الوثيق مع وزراء مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير عزز من هيمنة الأيديولوجيا المتطرفة داخل الحكومة الإسرائيلية. فقد صرح سموتريتش، وزير المالية الحالي، علنًا بأنه يؤمن بإسرائيل تمتد "من النيل إلى الفرات". كما ألقى خطابًا في باريس أمام خريطة تمثل هذا الامتداد، في تحدٍ صارخ للشرعية الدولية وللحدود المعترف بها.
وتقوم هذه الشراكة السياسية على أرضية عقائدية، تتبنى مفاهيم مثل "أرض إسرائيل الكاملة"، وتعتبر أن ضم الضفة الغربية ليس فقط شرعيًا بل واجبًا دينيًا. وهو ما يحول التوراة من كتاب ديني إلى وثيقة جيوسياسية، وتصبح السياسة الإسرائيلية أداة لتنفيذ نبوءات دينية بدلًا من أن تكون نتاج مصالح واقعية.
"إسرائيل الكبرى": من شعار ديني إلى مشروع سياسي مدمر
المصطلح ذاته – "إسرائيل الكبرى" – ليس بجديد، فقد نشأ مع بدايات المشروع الصهيوني، وارتبط بفكرة التوسع الجغرافي على أساس الوعد الإلهي. ولكنه عاد بقوة بعد حرب 1967، حين استولت إسرائيل على الضفة الغربية وغزة وسيناء والجولان.
ومع صعود التيارات الدينية، أصبحت هذه الفكرة تترجم على شكل مستوطنات جديدة، وقوانين تكرّس التفوق اليهودي، ورفض الاعتراف بأي حقوق وطنية للفلسطينيين. فنتنياهو وحلفاؤه يرون في كل قطعة أرض فلسطينية "وعدًا إلهيًا"، لا مساحة تفاوض. وهذا ما يجعل "إسرائيل الكبرى" اليوم، ليست مجرد حلم، بل سياسة فعلية تقود إلى نزع الشرعية عن أي حل سلمي.
الصحفي اليهودي مارتن جاك، حذر من أن اليمين المتطرف يسعى إلى إقامة "إسرائيل الكبرى"، ليس ضمن حدود توراتية فقط، بل كقوة إقليمية تسيطر على الشرق الأوسط بأسره، في مشروع توسعي لا يختلف كثيرا عن "حلم الإمبراطورية".
يرى جاك أن إسرائيل تشن حروبًا وقائية تدميرية، لا هدف لها إلا محو مراكز المقاومة، حتى في دول لم تبدأ الحرب بعد. هي لم تكتف بغزة ولبنان وسوريا، بل تنفذ عمليات ضد إيران، وتستعد للمواجهة مع تركيا. ويؤكد أن هذا الجنون لا علاقة له باليهودية، بل هو نتاج قومية دينية متطرفة تسيطر على الحكم.
"وثيقة ينون" وتفكيك المنطقة: الاستراتيجية المستترة خلف الحلم
في عام 1982، نشرت وثيقة بعنوان "استراتيجية إسرائيل في الثمانينيات"، أعدها عوديد ينون، وتتضمن خطة لتفكيك الدول العربية إلى كيانات طائفية. هذه الوثيقة، وإن لم تكن رسمية، عكست تفكيرًا استراتيجيًا عميقًا في إسرائيل مفاده: أن بقاء إسرائيل وقوتها يتحققان عبر إضعاف محيطها العربي.
اليوم، يمكن القول إن هذا النهج يجد صداه في خطاب نتنياهو وممارساته. فهو لا يسعى فقط إلى فرض السيطرة على الفلسطينيين، بل إلى تفتيت البنية السياسية والاجتماعية للدول العربية، مستخدمًا الصراعات الإقليمية كفرص لتعزيز نفوذ إسرائيل وفرض مشروعها الإمبريالي الجديد.
من "أثينا" إلى "إسبرطة": حلم العزلة وتكلفة الغرور العسكري
في خطاب غريب، شبه نتنياهو رؤيته لإسرائيل بـ"إسبرطة العظمى"، وهي المدينة اليونانية القديمة التي انهارت رغم قوتها العسكرية بسبب انغلاقها على ذاتها. ورغم محاولته تصوير هذا النموذج باعتباره دعوة للاعتماد على الذات، إلا أن الإسرائيليين رأوا فيه إشارة إلى العزلة والانهيار.
الاقتصاد الإسرائيلي بدأ يشعر بالفعل بثقل هذه العزلة. فأسواق أوروبا تدرس فرض عقوبات تجارية، وسُجل تراجع في قيمة الشيكل، وتضخم في العجز المالي، وهبوط في الاستثمار الأجنبي، ونمو سالب في قطاعات حيوية مثل التكنولوجيا والسياحة.
وبينما يحاول نتنياهو استحضار روح "الصمود" الأسطوري، يرى الكثيرون أن هذه العسكرة المفرطة ستؤدي إلى ما وصفه أحد المعلقين بـ"انتحار جماعي سياسي واقتصادي".
انقسامات داخلية ومجتمع إسرائيلي في حالة انهيار معنوي
لم يعد الانقسام داخل إسرائيل يقتصر على المعارضة والائتلاف، بل وصل إلى داخل المؤسسة العسكرية، والشارع، وحتى في أوساط النخبة الاقتصادية. تتزايد يومًا بعد يوم حالات رفض الخدمة العسكرية، والانتحار بين الجنود العائدين من غزة، بينما تصدر البيانات المتتالية من رجال الأعمال واتحاد النقابات محذرة من "تحطم الحلم الإسرائيلي".
الهجرة السلبية في ارتفاع ملحوظ، ومعظم من يغادرون هم من الشباب المتعلمين والعاملين في قطاعات التكنولوجيا. هؤلاء لم يعودوا يؤمنون بمستقبل بلدهم في ظل حكومة تعيش على أوهام توراتية، وتغرق المجتمع في مستنقع صراعات دينية وحروب لا نهاية لها.
ردود فعل عربية ودولية: رفض قاطع وخطوط حمراء تتجاوز الفلسطينيين
لم تكن تصريحات نتنياهو الأخيرة مجرد "زلة لسان" كما حاولت بعض الجهات الإسرائيلية الترويج، بل لاقت رفضًا واسعًا من دول عربية مركزية مثل السعودية، ومصر، والأردن، وقطر، فضلًا عن جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي.
المواقف العربية عبّرت بوضوح عن أن أي تفكير في توسيع إسرائيل على حساب سيادة دول أخرى هو تجاوز للخطوط الحمراء، وتهديد صريح لأمن المنطقة. كما أن الاتحاد الأوروبي بدأ يبحث في فرض عقوبات اقتصادية وتقييد التبادل التجاري، ضمن خطوات قد تشكل بداية لعزلة دبلوماسية شاملة ضد إسرائيل.
"إسرائيل الكبرى" وانتحار الحلم الإسرائيلي
ما لا يدركه نتنياهو أو يتجاهله عمدًا هو أن إسرائيل التي يحكمها اليوم لا تشبه إسرائيل التي أنشأها مؤسسوها. فالدولة التي أرادوا لها أن تكون "منارة ديمقراطية" في الشرق الأوسط، تحوّلت في ظل سياساته إلى دولة تُحكم بتطرف ديني وعقيدة عنصرية استعلائية.
تحقيق مشروع "إسرائيل الكبرى" لن يكون فقط على حساب الفلسطينيين، بل سيقضي على ما تبقى من شرعية إسرائيل الدولية، وسيحوّلها إلى كيان منبوذ. وعندها، لن يكون أمام الإسرائيليين سوى مواجهة خيارين: إما الانصياع لمطالب التطرف، أو التمرد على هذا المشروع الكارثي الذي يهدد وجودهم ذاته.
الانحراف الفاشي
في عام 2018، حذر المؤرخ الفرنسي دومينيك فيدال من الانحراف الفاشي في إسرائيل، ورصد ثلاثة أبعاد رئيسية لهذا الانحدار: المشروع الاستيطاني الاستعماري، الكراهية المتصاعدة ضد الفلسطينيين، والتحالف مع أقصى اليمين الأوروبي. وما كان يراه العالم آنذاك بوصفه "مبالغة يسارية"، أصبح اليوم واقعًا ملموسًا، لا يمكن إنكاره حتى داخل إسرائيل ذاتها.
المشروع الاستيطاني لم يعد مجرد توسع تدريجي، بل تحوّل إلى سياسة رسمية تسعى إلى ضم الضفة الغربية كليًا أو جزئيًا، وتحويل "إسرائيل" إلى دولة يهودية بالكامل عبر قانون "القومية"، مع ما يعنيه ذلك من إقصاء لمواطنيها الفلسطينيين، وتجريدهم من حقوقهم السياسية والمدنية.
أما الكراهية الرسمية تجاه الفلسطينيين، فقد تجلّت في خطاب قيادات بارزة، مثل أييليت شاكيد، التي وصفت الشعب الفلسطيني بأنه "عدو" يجب إبادته، ونفتالي بينيت الذي تفاخر بقتل العرب، وأفيغدور ليبرمان الذي دعا إلى طرد "العرب الإسرائيليين" من البلاد. هذه ليست فقط تصريحات معزولة، بل تعكس توجهًا عنصريًا ممنهجًا يحكم السياسات الأمنية والاجتماعية.
7 أكتوبر: النقطة التي فُتحت فيها أبواب الجحيم
جاءت أحداث 7 أكتوبر 2023، حين شنت "حماس" هجومًا غير مسبوق على المستوطنات المحاذية لغزة، لتكون لحظة فارقة في المسار الإسرائيلي. وفق الباحثين نمرود فلاشينبرغ وألما يتسحاقي، فقد كشف الهجوم هشاشة الدولة، وعسكرة المجتمع، وعمق العنصرية، وأطلق موجة من الانتقام العشوائي ضد الفلسطينيين، لم تقتصر على غزة، بل شملت فلسطينيي الداخل.
ففي الأسابيع التي تلت الهجوم، شنت الحكومة الإسرائيلية حملة اعتقالات غير مسبوقة ضد المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، بسبب "منشورات" على مواقع التواصل تعبّر عن تعاطف مع غزة. وبدأت ممارسات الرقابة والتهديد والملاحقة في الجامعات وأماكن العمل، في مشهد يذكّر بديكتاتوريات القرن العشرين.
في الوقت ذاته، أطلق وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير سياسة تسليح المدنيين، فتمت الموافقة على عشرات آلاف الطلبات لحيازة الأسلحة، معظمها من مستوطنين ومناصرين لليمين المتطرف، ما حول المجتمع الإسرائيلي إلى مجتمع مسلّح خاضع للهاجس الأمني الدائم. وقد حذرت منظمات نسوية من أن ذلك سيؤدي إلى تصاعد العنف الداخلي، لا سيما ضد النساء، وهو ما بدأ يظهر فعليًا.
أفول اليسار وصعود اليمين في إسرائيل
بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023، بدأت أصوات يمينية إسرائيلية بإلقاء اللوم على اليسار، متهمين سياساته – كاتفاق أوسلو وانسحاب غزة – بأنها مهدت الطريق للهجوم. رغم أن اليسار لم يكن في السلطة منذ أكثر من عقدين، فقد جرى تحميله مسؤولية النتائج الأمنية بسبب دعمه لمبدأ حل الدولتين. في هذا السياق، بات الحديث عن الثقة بالفلسطينيين أمرًا مرفوضًا تمامًا لدى قطاعات واسعة من الإسرائيليين.
على الساحة السياسية، تراجع اليسار تدريجيًا منذ الانتفاضة الثانية. صعود حزب "كاديما" الوسطي في منتصف العقد الأول من الألفية شكّل محاولة لإعادة تشكيل السياسة الإسرائيلية عبر مواقف وسطية وتخلي عن الصيغ التقليدية لليمين واليسار، لكنه انهار لاحقًا بفعل الفساد والانقسامات. بديله، "يش عتيد" بقيادة يائير لابيد، تبنّى نهجًا أكثر حيادية تجاه القضية الفلسطينية، مركّزًا على قضايا داخلية وتجنب الخوض في الأمن أو الاحتلال.
في المقابل، تحرك بعض القادة الوسطيين، مثل بيني غانتس، نحو مواقف يمينية صريحة، بما في ذلك معارضة قيام دولة فلسطينية. أما اليسار التقليدي، المتمثل في حزبي "العمل" و"ميرتس"، فقد تقلص تمثيله بشكل كبير، وصولًا إلى اختفاء ميرتس من البرلمان عام 2022، واندماجهما تحت قيادة يائير جولان في كتلة تُعرف بـ"الديمقراطيين".
ورغم الجهود الجديدة التي يبذلها جولان وبعض الشخصيات اليسارية لإعادة إحياء الخطاب اليساري، فإن قاعدته الشعبية محدودة. أما على المستوى الشعبي، فيتعرض اليساريون لحملة شيطنة وتشويه، حيث يُنظر إليهم كخونة أو معادين للأمن، خاصة بعد الحرب الأخيرة على غزة. هذا التراجع جعل اليسار خارج معادلة الحكم، حتى داخل "المعسكر الليبرالي" الذي بات تحت هيمنة قوى الوسط.
في ظل هذه التحديات، ظهرت حركات يسارية بديلة مثل "اليسار الراديكالي" و"الوقوف معًا"، التي تسعى لبناء معارضة حقيقية للاحتلال والفصل العنصري من خلال العمل الشعبي وتنظيم الاحتجاجات والتضامن مع الفلسطينيين، لكنهم يواجهون التهميش من كل الجهات، بما في ذلك معسكر السلام التقليدي.
شهدت الفترة الأخيرة محاولات يائسة لبناء بدائل سياسية جديدة عبر مؤتمرات مثل "حان الوقت – مؤتمر السلام الكبير"، ومحاولات لربط قضايا الديمقراطية بالاحتلال. مع ذلك، تظل هذه الجهود محصورة بين قطاعات محدودة في المجتمع الإسرائيلي، وسط تفاقم النزعات الفاشية والقومية المتطرفة، بحسب وصف بعض النشطاء.
وفي المحصلة، فإن إخفاق الوسط في تقديم بديل فعّال، إلى جانب تشرذم اليسار، وصعود اليمين المتطرف، خلق مشهدًا سياسيًا أحاديًا يغيب فيه الخطاب المناهض للاحتلال تمامًا. ومع استمرار الحرب وغياب المحاسبة، يبقى مصير اليسار – سواء في صورته التقليدية أو الراديكالية – معلقًا بين الإلغاء الكامل أو الانبعاث من الهامش السياسي.
المستوطنات: استعمار بلا قناع
على خط موازٍ، يعمل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش على تسريع مشاريع الاستيطان بطريقة غير مسبوقة. فخلال عام 2024، تم إنشاء 24 بؤرة استيطانية جديدة، وشقت عشرات الطرق، وتمت المصادقة على آلاف الوحدات السكنية، بعضها بُني على أراضٍ فلسطينية خاصة.
وترافق ذلك مع تصاعد عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين، حيث تم تسجيل أكثر من 1000 هجوم هذا العام، بحماية الجيش أو بمشاركته أحيانًا. وتمّ تهجير قرى بأكملها في الأغوار، في ما يُعد سياسة تطهير عرقي بطيء، ولكن ممنهج.
غزة: تدمير ممنهج وتجريد من الإنسانية
في قطاع غزة، قادت حكومة نتنياهو حربًا إبادة تجاوزت كل الحدود، كما وثقت محكمة العدل الدولية ومنظمات حقوق الإنسان. القتل والتجويع والتدمير، أصبحا سياسة رسمية، بدعم شعبي واسع، وبإعلام يروّج رواية الجيش فقط، ويتجاهل بالكامل معاناة المدنيين الفلسطينيين.
لقد تجرّدت إسرائيل، وفق تقرير لمنظمة العفو، من أي بقايا إنسانية، وتحولت إلى "إسبرطة يهودية" بحسب وصف صحيفة "هآرتس"، دولة محصنة عسكريًا، تقاد بعقيدة دينية-قومية، وتخوض حربًا صليبية ضد "الآخر العربي".
العسكرة الكاملة.. وأزمة الكفاءات
إن عسكرة المجتمع، التي بلغت ذروتها في 2024، بدأت تنتج أزمة بنيوية. فتمديد الخدمة العسكرية للرجال، وزيادة الإنفاق الدفاعي، يأتيان على حساب التعليم والصحة والخدمات العامة. والأسوأ، أن النخبة الاقتصادية والعلمية – خصوصًا في مجالات التكنولوجيا والطب والبحث العلمي – بدأت بالهجرة الجماعية.
لم يعد كثير من الإسرائيليين يرغبون بالعيش في دولة عسكرية. إنهم يغادرون بصمت، حاملين جوازاتهم الأجنبية، بحثًا عن مستقبل في مكان آخر. وهذا النزيف الصامت هو مؤشر خطير على ما تواجهه إسرائيل من أزمة داخلية عميقة، قد تطيح بكل ما بنته منذ عام 1948.
نتنياهو.. الزعيم الذي يجر البلاد نحو الهاوية
يصف كثير من الكتاب الإسرائيليين نتنياهو بأنه رجل مهووس بالسلطة ومطارد بالفساد والهواجس الدينية. وهو يحكم بمنطق "أنا أو الفوضى"، ولا يتوانى عن شيطنة القضاء، وتفكيك المؤسسات الديمقراطية، وتخويف الجمهور من كل العالم.
خطاباته الأخيرة، كما في مؤتمر الشؤون المالية في القدس، أقرّ فيها باحتمال عزل إسرائيل عن العالم، معلنًا عزمه تحويلها إلى اقتصاد "أوتاركي"، أي مغلق تمامًا. وهو بذلك يعترف بأن سياساته قد تؤدي إلى حصار دولي شامل.
في المقابل، لا توجد معارضة قادرة على كبح جماحه، كما قال الكاتب الإسرائيلي بن كاسبيت: "لدينا حكومة بلا خجل، ومعارضة بلا حول". وحتى الكارثة التي ضربت إسرائيل في 7 أكتوبر، لم تكن كافية لبدء أي تحقيق جدي. فالحكومة ترفض الاعتراف بأي مسؤولية، وتستمر في خوض الحروب على كل الجبهات.
هل يمكن تغيير هذا الواقع؟
يرى الباحثان نمرود فلاشينبرغ وألما يتسحاقي أن التغيير لن يأتي من داخل النظام الإسرائيلي. فالقمع، والحرب، والانقسامات، سحقت قوى السلام واليسار، ولم تبق سوى نخب معزولة. ويريان أن الحل يكمن في تدخل دولي حازم: فرض حظر سلاح، وعقوبات، وضغط دولي حقيقي، قد يفتح المجال لظهور قوى بديلة داخل إسرائيل.
أما أبراهام بورغ، فيدعو إلى حل إقليمي واسع، يدمج القضية الفلسطينية في إطار أمن اقتصادي أوسع مع الدول العربية. لكنه يعترف بأن إسرائيل ليست مستعدة بعد لأي مبادرة جادة، بل تنزلق أكثر نحو التطرف.