يقال دائما عن شهادتنا فى حق المقربين أنها شهادة مجروحة، ولكن من يعرفوننى يثقون أننى لا أقول إلا ما أراه حقا، وما استقر فى يقينى.. لذلك سوف أتحدث عن شقيقتى، وشريكتى فى الرحم والفرح والحزن والنجاح والاخفاق، لأننى لم أتعود كتم شهادتى، وخاصة عندما تتعلق بقصة لم أسمع بها أو أقرأ عنها، ولكن عشت تفاصيلها ودقائقها، ووجدت من الأمانة أن أكتبها.
كثيرون يعرفون من هى رانيا يحيى، وتابعوا نشاطها العلمى والعملى والإجتماعي عن قرب، وأشادوا بما رأوه، ولكن الأغلب الأعم لم يشهدوا الرحلة من البداية.. فما وصلت له لم يكن صدفة أو ضربة حظ، ولكنه خلاصة تعب وجهد وإجتهاد على مدار سنوات العمر بلا راحة ولا كلل أو ملل، رغم الصعوبات والضغوط والحروب التى كنت شاهدة عليها واكتويت بنارها فى كثير من الأحيان!
رحلة جديرة بالإحترام منذ كانت طالبة مجتهدة ومتفوقة فى دراستها العلمية والفنية، دؤوبة ونشيطة تعشق العمل والإنجاز، مشتركة فى الانشطة الطلابية، وما يتطلبه ذلك من وقت وجهد هائل وخاصة من طالب فى الكونسرفتوار مكلف بمهام دراسية كأى طالب فى أى مدرسة اعدادية وثانوية، إلى جانب المواد الدراسية الموسيقية والفنية والتدريبات والبروفات.. ثم كان التحاقها بكلية الحقوق، بالتوازى مع المرحلة العالية فى الكونسرفتوار! وأى طالب فى أكاديمية الفنون يعلم جيدًا كم الجهد الملقى على طالب الكونسرفتوار، وكم المواد الدراسية النظرية والعملية، وما تتطلبه من جهد قاسى يسرق أعمارنا، وأضافت رانيا عبئا أكبر بدراستها فى كلية حقوق جامعة القاهرة.
وأذكر جيدًا ما كانت تعانيه من توتر وبكاء بسبب قلقها وحرصها على التفوق، وهى تسابق الزمن ما بين الكونسرفتوار وكلية الحقوق، لحضور الامتحانات هنا وهناك.. كل ذلك وهى مستمرة فى نشاطها الطلابى! حتى أطلق عليها أستاذى البروفيسور أرتشيل خاراتزى وهى فى المرحلة الجامعية إسم (سوزان مبارك) نظرًا لانشغالها الدائم وسرعة خطواتها وحديثها كى تستطيع الإنجاز!
جهد بدنى وعصبى وسهر وشقاء، ودقائق للنوم تُقتنص رغما عنها وهى جالسة تحمل الكتاب أو اللاب توب -فيما بعد- حتى أصبحنا نتندر فيما بيننا إلى يومنا هذا بأوضاع نومها عندما يغلبها النعاس وهى تكتب بحثا أو مقالا.
سنوات مرت بجهد لا يدركه أو يتحمله إلا صاحب حلم وهدف يجاهد نفسه ويحرمها من أبسط حقوقها! حصلت رانيا على بكالوريوس الكونسرفتوار وليسانس الحقوق فى نفس العام، وهو ما لا اعتقد أنه حدث مع أى شخص آخر، ولكنه فضل الله الذى لا يضيع أجر من أحسن عملا.
لن أنس ما حييت رانيا وهى تجرى وتسعى بكل همة وبطنها ممتدة أمامها (شبرين)، وتجتهد وتمارس العمل بكل دأب وفى قمة النشاط رغم متاعب الحمل، ونحن نطالبها بالتوقف خشية عليها، ولكنها تكمل طريقها بكل إصرار دون أن تتوقف!
ولن أنس نزولها بعد ساعات من ولادتها لفريدة بعملية قيصرية وهى لا تستطيع المشى! وذلك لحضور سمينار لعرض خطة الدكتوراة، بعد توقف القسم لفترة طويلة عن عقد السمينارات لمناقشة خطط البحوث، وهو ما يعطل الباحثين ويعرضهم للاستبعاد من هيئة التدريس..
وتم تحديد السمينار عقب ولادتها مباشرة وبإعلان مفاجئ، إلا أن رانيا بإرادتها المعهودة وتحاملها على نفسها فاجأت الجميع بالحضور! رغم الإعياء والجرح الذى لم يلتئم! وبعد فترة انتظار من العاشرة صباحا وحتى الثالثة عصرا إنتهى السمينار دون مناقشتها، فكان قرارها بتغيير المسار، والتحويل إلى معهد النقد الفنى، بعد موافقة رئيس الأكاديمية المحترم أستاذ دكتور سامح مهران، ولولا ذلك لما استكملت رسالة الدكتوراة!
وتفوقت فى المجال الجديد كعادتها، وعكفت بكل حماس على تحضير الدكتوراه فى أقل وقت ممكن حتى نالتها بتفوق، وخلال خمسة عشر عاما فقط من انتقالها للنقد الفنى، اجتهدت فى نشر أبحاث علمية مميزة حتى حصلت على كامل ترقيات المسار الأكاديمى وأصبحت عميدة للمعهد.
من حق أى شخص أن يحب رانيا أو يكرهها! فقلوبنا بيد الله يقلبها كيفما شاء، ولكن لا أعتقد أن أى شخص يعرفها جيدا، ويتقى الله ولو لذرة! يمكن أن ينكر أنها إنسانة مجتهدة ونشيطة ودؤوبة ودائما ما تبذل أقصى جهدها فيما تكلف به طوال حياتها، ولا تقبل إلا التفوق.
فلا تقارنوها بأحد ممن صعدوا بلا معايير أو رصيد علمى وعملى!.. فهى تحصنت بالدراسة والعلم، وقدمت إنتاج فكرى مميز، قبل أن تكلف بأى منصب، ثم أثبتت كفاءتها بعد ذلك فى كل ما تم إسناده لها.
فلا تحاولوا أن تهيلوا التراب على جهدها الذى لم تدفع ثمنه وحدها.. ولكن دفعه معها أم عظيمة بذلت من عمرها وصحتها كى تصل بأبنائها إلى بر الأمان، وكان أقل ما تفعله السهر كى تقرأ كتب القانون وتذاكرها حتى تذلل صعوبتها وتتمكن من شرحها لإبنتها لضيق الوقت، رغم بعدها تماما عن هذا المجال.
وأب فاضل (رحمه الله ) رغم انشغاله الدائم كضابط شرطة كان يقضى ساعات ليقوم بتلخيص وتبسيط بعض المواد المعقدة وصياغتها حرصا على تفوق أبنائه.. ولا زلت احتفظ بخرائط ورسومات اعدها لنا كى يساعدنا فى فهم بعض المناهج الفلسفية المعقدة على سبيل المثال.
ثم ثمن دفعه زوج رانيا المحترم الراقى لواء محمد الهرميل والذى لم يؤرقه هذا الجهد للوصول للنجاح، وكذلك أبنائهما يحيى وفريدة، لأن ما تقوم به رانيا من عمل وجهد ونشاط علمى وأكاديمي ومجتمى مقتطع من وقتهم وحقوقهم، فتحملونها وتحملناها معهم طواعية حبا وتقديرا واحتراما لكل ما يبذل.
لم تصل رانيا لما وصلت إليه هباء بل بإجتهادها ومثابرتها وصمودها واستمرار سعيها على مدار العمر.. رغم الصعوبات ورغم محاولات إفشالها وإغلاق الأبواب فى وجهها، ولكن كعهدنا بالله تعالى الذى حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرما، ولم يطالبنا سوى بالعمل والسعى أيا ما كانت الظروف، حتى وإن لم يثمر، وحتى إن لم نر أو ندرك الأسباب.. فكانت كلما أغلق بابًا فى وجهها، فتح الله لها بفضله وواسع كرمه خيرًا منه.
هذه هى رانيا التى حظيت بمظاهرة حب من كبار مثقفى مصر وعقولها، وذلك بمجرد صدور قرار وزير الثقافة بعدم تجديد انتدابها فى الأكاديمية المصرية بروما! وهنا ظهر تساؤل كبير وعلامات تعجب تناقلتها الألسن، لأن الصحوة التى حدثت بروما بإدارة رانيا كانت مبهرة لكل المتابعين للنشاط الثقافى!.. وكى لا نظلم د/ أحمد هنو فهو لم يختار رانيا منذ البداية، فهذا المنصب كان قد رُشح له إثنين بعد خوضهما لدورة تدريبية معا، وهما رانيا ودكتور أحمد هنو، وحدث التغيير الوزارى وتولى دكتور هنو تلك الحقيبة، وبعد توليه الوزارة أعلن رأيه ورغبته صراحة لها بأنه لا يرى أنها تصلح لهذا المكان وأن لديه من يتولى هذا المنصب! ولكن لأن ترشيحها قد سبق تكليف سيادته بالوزارة! لذلك كان قد قضى الأمر.
من حق وزير الثقافة أن يجاهر برأيه ويفصح عن نواياه قبل حتى أن تتولى منصبها ويتم اختبار أدائها!
ومن حقه ألا يتنازل عن رأيه المسبق، رغم الإنجازات التى تحققت على أرض الواقع!
ولكن ليس من حق أحد أن ينقل ويتناقل كلام مرسل، وشائعات ليس لها أساس من الصحة، ودون مستندات ووثائق تؤكدها!
وإذا كان عميد عمداء كلية الحقوق أ.د/ محمود كبيش قد كتب بعد قرار عدم تجديد الانتداب:
(لأول مرة فى تاريخ البعثات الثقافية يُلغى ندب أحد بعد شهور معدودة بلا سبب… الدكتورة الفنانة رانيا يحيى، بَعثت من جديد أكاديمية روما)
لذلك من حقنا جميعًا أن نطلب من معالى وزير الثقافة أن يعلن أسباب قراره بعدم تجديد الانتداب، رغم ما رأيناه من إنجازات فعلية مسجلة بالصوت والصورة على وسائل الإعلام، وما تابعناه من زخم فنى وثقافي في الأكاديمية خلال فترة قصيرة، ما بين معارض فن تشكيلي، وندوات ثقافية وشعرية، وورش لتعليم الرسم والإلقاء والتمثيل، وحفلات موسيقية راقية تنوعت بين حفلات صولو وموسيقى حجرة، وشملت حفلات لأوركسترا الشباب العربي (أيبو)، وأوركسترا (النور والأمل) الفريد من نوعه، والذى أبهر الجمهور الأوروبي من خلال حفلين: أحدهما في الأكاديمية المصرية بروما، والآخر فى جامعة (لا سابينزا) أقدم وأعرق جامعة فى روما، وواحدة من أهم جامعات أوروبا، وتم التعاون مع كونسرفتوار سانتا شيشيليا وطلاب فصل ذوى الإعاقة به.. وكل هذه النشاطات المتنوعة دون أن تتكلف الوزارة أى أجور للمشاركين أو تأشيرات وتذاكر سفر، سوى لحفل واحد فقط للسوبرانو الرائعة أميرة سليم.
من حقنا أن نعرف الإجابة بشفافية وبأسباب معلنة وأدلة ووثائق، دون ترك الأمر للتكهنات والشائعات التى لا تليق بوزارة الثقافة ومسئوليها!
يا معالى الوزير أعلنها صراحة.. هناك من يستغلون صمت الوزارة ويدّعون ما يخالف الحقيقة، في محاولة لفرض روايات لا أصل لها!
وآن الأوان يا معالى الوزير أن تغلق أبواب الأقاويل وتطفئ نيران الأكاذيب، ببيان يقطع الشك باليقين.
وأخيرا
أقدم كل الشكر لشقيقتى رانيا التى أفخر بها، وأفخر بجهدها وتمثيلها المشرف لبلدنا الحبيب.. وأثق فى قدرتها على العطاء والتميز والتفوق من أى موقع، كما كانت دائما نموذجًا ملهما فى كل ما تقلدته من وظائف أو مناصب.
وشكرا من القلب لكل كلمة حق قيلت لدعم رانيا من القامات الكبيرة التى تعلمنا وما زلنا نتعلم منهم...
وشكرا لكل من يعى أمانة الكلمة، ويدرك معنى (فليقل خيرا أو ليصمت) ولا يستهين بقول الله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)
وصدق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: "وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم".