بين طبقات الصخور العميقة وتحت رمال الصحراء والبحار، تخفي مصر ثروات هائلة من النفط والغاز، بدأت ملامحها تتضح تدريجيًا، على مدى السنوات القليلة الماضية، مع تقدم أعمال تنفيذ خطط زيادة الاحتياطيات.
وفي وقت يشهد فيه العالم اضطرابات متزايدة في أسواق الطاقة، تصعد القاهرة بثبات في سلم الدول المنتجة والواعدة إقليميًا ودوليًا، من خلال طرح مناقصات التنقيب عن النفط والغاز، والتعاون مع كبريات الشركات العالمية.
وخلال سنوات قليلة، بات قطاع النفط والغاز في مصر أحد أبرز محركات التنمية الاقتصادية، على الرغم من مرور القاهرة بأزمات معقدة، خلفتها الحراكات السياسية التي شهدتها الدول العربية في مطلع العقد الثاني من الألفية الحالية.
ويستند هذا القطاع الحيوي إلى سجل تاريخي طويل من الاكتشافات، وشراكات دولية فاعلة، وخطط توسعية تدفعه نحو مستقبل واعد، قد ينبئ خلال سنوات قليلة، بما يمكن أن يُوصف بـ"التعافي".
تاريخ قطاع النفط والغاز في مصر
يُظهر تاريخ قطاع النفط والغاز في مصر أن أولى محاولات استكشاف النفط تعود إلى عام 1886، لكن أول كشف تجاري حقيقي تحقق في منطقة جمصة عام 1908.
ومنذ ذلك الوقت، توسعت الرقعة الجغرافية للبحث، لتشمل خليج السويس والصحراء الغربية، ثم امتدت إلى البحرَيْن الأحمر والأبيض المتوسط، اللذَيْن اتضح أنهما مستقر لكميات عملاقة من الهيدروكربونات.
وبعد ثورة 23 يوليو/تموز من عام 1952، شهدت فترة الخمسينيات والستينيات نموًا كبيرًا بعد تأميم القطاع وتأسيس الهيئة العامة للبترول، ما عزّز سيادة الدولة على مواردها، وذلك في عهد الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر.
ثم جاءت السبعينيات لتشكّل نقطة تحول بإدخال نماذج جديدة من عقود المشاركة وجذب الشركات الأجنبية الكبرى للاستثمار في السوق المصرية، بعد الانفتاح السياسي والاقتصادي الذي طبقه الرئيس الراحل أنور السادات.
ومع حلول الألفية الثالثة، دخلت مصر مرحلة إعادة الهيكلة والإصلاحات التشريعية لتحفيز الاستثمار الأجنبي، ما أسهم في تنشيط قطاع النفط والغاز من جديد.
احتياطيات ضخمة ومكامن غير مكتشفة
تُقدَّر احتياطيات النفط المؤكدة في مصر بأكثر من 3.6 مليار برميل، فضلًا عن احتياطي محتمل أكبر لم يُستغل بعد بالكامل، إلا أن العامَيْن الأخيرَيْن يشهدان نشاطًا محمودًا لزيادة هذه الاحتياطيات.
أما عن احتياطيات الغاز المؤكدة في مصر فقد بلغت في عام 2017 نحو 77 تريليون قدم مكعبة، لتحتل القاهرة المرتبة 68 عالميًا، وتمثّل -آنذاك- نحو 1.12% من إجمالي احتياطيات الغاز العالمية.
وفي فبراير/شباط 2025، كشفت تقارير رسمية عن احتمالية إضافة نحو 300 مليون برميل من النفط الخام إلى احتياطيات القاهرة، وذلك بعد الانتهاء من خطوة مهمة، تقضي بحفر عدد من الآبار الجديدة.
وبحسب التقارير المنشورة في منصة الطاقة المتخصصة، فقد أسهمت شركة خاصة في رفع احتياطيات النفط بمقدار 29% ضمن امتياز بمنطقة أبوسنان، وهو إنجاز فني مهم.
وتُعد الصحراء الغربية من أغنى المناطق إنتاجًا؛ إذ تحتضن نحو 60% من إنتاج مصر من الخام، مع استمرار أعمال الحفر والاستكشاف فيها.
أما خليج السويس فيحتفظ بأهمية تاريخية وجيولوجية، إذ يحتوي على احتياطات ضخمة تعيد شركات عدة اليوم تطويرها بوسائل حديثة.

وفي الوقت ذاته، تواصل مصر الاستثمار في أعماق البحر المتوسط، إذ يُتوقع وجود مكامن نفطية واعدة، خاصة مع تطور تقنيات الحفر البحري.
وتشير البيانات إلى أن كثيرًا من الحقول القديمة ما تزال قادرة على العطاء بعد تحسين تقنيات الاستخراج وإعادة تطوير البنية التحتية.
وفي السياق ذاته، أعلنت وزارة البترول مضاعفة ميزانية التنقيب في مناطق الامتياز الحدودية مع ليبيا والسودان، مع خطط لجذب مشغّلين جدد.
وتنتهج مصر سياسة مزدوجة توازن بين الاستكشاف المكثف في الحقول الناضجة والبحث في المناطق الجديدة غير المكتشفة.
وتُظهر هذه المقاربة نضجًا في إدارة الموارد، ووعيًا بتغيرات السوق وتطورات التكنولوجيا عالميًا.
حضور قوي لأكبر شركات النفط العالمية
تشهد السوق المصرية تنوعًا لافتًا في جنسيات الشركات العالمية العاملة، ما يعكس ثقة المستثمرين بالمناخ الاستثماري للقطاع.
من أبرز الشركات الحاضرة: "إيني" الإيطالية، والنفط البريطانية "بي بي"، و"شيفرون" الأميركية، و"توتال إنرجي" الفرنسية، و"زاروبيجنفت" الروسية.

ويُعَدّ هذا التنوع في الشركاء إضافة حقيقية للقطاع؛ إذ يفتح المجال لتبادل الخبرات والتقنيات المتطورة في الاستكشاف والإنتاج.
كما وسّعت شركات خليجية وجودها، مثل "أدنوك" الإماراتية التي تخطط لزيادة إنتاجها بنسبة 20% من مناطق الامتياز في خليج السويس.
وفي أواخر 2024، أعلنت شركة سعودية تحقيق طفرة كبيرة في إنتاج النفط من منطقة أبوسنان، ما يعكس تنامي التعاون الإقليمي في قطاع الطاقة.
وتعمل هذه الشركات ضمن عقود تقاسم إنتاج تضمن لها الاستقرار المالي، وتشجعها على توسيع أنشطتها وتطوير حقولها.
وقد اعتمدت وزارة البترول المصرية نماذج اقتصادية مرنة في العقود تسمح بتحفيز الإنتاج دون تحميل الميزانية العامة أعباء إضافية.
كذلك، جرى تبنّي عدد من المبادرات لتسهيل العمليات، مثل رقمنة الموافقات وتطوير البنية التحتية اللوجستية في مناطق الإنتاج.
وتسعى الحكومة المصرية إلى جذب شركات آسيوية مثل "بتروتشاينا" و"إنبكس" اليابانية لتعزيز التنوع الجغرافي في الاستثمار.
هذا الخليط الدولي في السوق يرسّخ مكانة مصر بصفتها مركزًا إقليميًا موثوقًا لتطوير مشروعات النفط والغاز في شمال أفريقيا والشرق الأوسط.
مشروعات جديدة تعزّز الإنتاج وتفتح آفاق التصدير
يشهد قطاع النفط المصري نشاطًا مكثفًا على صعيد المشروعات الجديدة، سواء من حيث الاكتشافات أو توسعات الحقول المنتجة.
في 2025، أعلنت وزارة البترول بدء تنفيذ مشروع تطوير امتياز غرب كلابشة، الذي يُتوقع أن يضيف أكثر من 10 آلاف برميل يوميًا.
كما دشّنت شركة خاصة توسعة ضخمة في امتياز "شرق عش الملاحة" تستهدف رفع معدلات الإنتاج بأكثر من 40%.

وفي السياق نفسه، باشرت شركة إماراتية حفر آبار تطويرية جديدة في منطقة "بحر الجنوب" بخليج السويس ضمن خطة لزيادة الإنتاج تدريجيًا.
وعلى مستوى التكرير، تُخطط الحكومة لزيادة الطاقة التكريرية بنسبة 25% بحلول عام 2028، ما يدعم خطط تصدير مشتقات النفط.
وتعمل مصر أيضًا على تطوير شبكة الأنابيب وتوسعة قدرات النقل والتخزين لضمان سرعة تصريف الإنتاج في الأسواق المحلية والدولية.
كما تُركّز الدولة على مشروعات القيمة المضافة مثل الصناعات البتروكيميائية، خاصة في محور قناة السويس والمناطق الحرة.
في السياق ذاته، تتجه مصر لربط الحقول الجديدة بشبكة الإنتاج باستعمال أنظمة مراقبة رقمية تقلّل من التكاليف وتزيد الكفاءة التشغيلية.
وتدعم هذه المشروعات مجتمعة هدف مصر بأن تصبح مركزًا إقليميًا لتجارة وتكرير وتوزيع النفط في شرق المتوسط وأفريقيا.
مزايدة التنقيب عن النفط والغاز في مصر
في أواخر فبراير/شباط الماضي 2025، طرحت وزارة البترول والثروة المعدنية مزايدة للتنقيب عن النفط والغاز في مصر، وجاءت هذه الخطوة ضمن المساعي المستمرة لتعزيز الأمن الطاقي واستقطاب استثمارات جديدة في القطاع.
وشملت المزايدة 13 موقعًا، من بينها 7 حقول غير مستغلة في البحر المتوسط، بالإضافة إلى 6 مناطق استكشافية أخرى في كل من خليج السويس والصحراء الغربية، ما يعكس تنوع الفرص المتاحة أمام المستثمرين.
وأتاحت الوزارة الفرص الاستثمارية أمام الشركات المحلية والعالمية عبر بوابة مصر للاستكشاف والإنتاج (EUG)، في إطار إستراتيجية شاملة لتعزيز الاستدامة وتوسيع أعمال البحث والاستكشاف والإنتاج في مختلف المناطق الواعدة.
موضوعات متعلقة..
اقرأ أيضًا..