أعلنت حكومة الوحدة الوطنية الليبية، مساء ٢١ أغسطس ٢٠٢٥، أنها تمكنت من إحباط محاولة كانت تهدف لاستهداف مقر بعثة الأمم المتحدة فى العاصمة طرابلس، فى واقعة أثارت قلقًا واسعًا فى الداخل الليبى وبين الأوساط الدولية، خاصة أنها تتزامن مع احتدام التوترات السياسية، والانقسامات العسكرية، وتنامى نفوذ الجماعات المسلحة الخارجة عن سيطرة الدولة.
وذكرت الحكومة، فى بيان رسمى نشرته عبر منصتها الرقمية "حكومتنا"، أن "الأجهزة الأمنية المختصة تمكنت من رصد المحاولة الإرهابية وتعاملت معها بسرعة واحترافية"، مشيرة إلى أن "القوات ضبطت مركبة مفخخة كانت مجهزة بصواريخ وقاعدة إطلاق، كانت مخصصة لتنفيذ الهجوم على مقر بعثة الأمم المتحدة فى طرابلس".
وأضاف البيان أن "هذه المحاولة تمثل تهديدًا مباشرًا لأمن العاصمة، وسلوكًا يستهدف النيل من استقرار البلاد وعلاقاتها بالمجتمع الدولي"، مشيدًا فى الوقت نفسه بجهود وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية المختلفة التى ساهمت فى إحباط المخطط قبل تنفيذه.
وفيما لم تُعلن الحكومة عن تفاصيل الجهة التى تقف وراء المخطط، أكد البيان أن "التحقيقات جارية لتحديد المتورطين، وأن الحكومة ستلاحقهم ومن يدعمهم أو يتواطأ معهم، ولن تتهاون فى تقديمهم إلى العدالة"، مشددة على التزامها بمواصلة خطتها الهادفة إلى بناء مؤسسات أمنية موحدة ومهنية، والتصدى لكافة التشكيلات المسلحة الخارجة عن القانون.
رسائل خطيرة وراء الاستهداف
يأتى استهداف بعثة الأمم المتحدة فى ليبيا فى وقت حساس تمر فيه البلاد بمرحلة انتقالية هشة، وسط تعثر المسار السياسي، وفشل إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التى كانت مقررة منذ نهاية ٢٠٢١.
ولا تزال ليبيا منقسمة بين حكومتين متنافستين، الأولى فى الغرب بقيادة عبد الحميد الدبيبة، المعترف بها دوليًا، والثانية فى الشرق بقيادة أسامة حماد بدعم من البرلمان الليبى وقائد "الجيش الوطنى الليبي" خليفة حفتر.
ورغم المساعى الأممية والدولية الحثيثة لإعادة توحيد المؤسسات، فإن التقدم على هذا الصعيد يظل محدودًا، فى ظل استمرار الخلافات حول القوانين الانتخابية، توزيع الموارد، ومناصب السيادة، ناهيك عن غياب الثقة بين الأطراف المتصارعة.
وبهذا السياق، فإن محاولة استهداف مقر بعثة الأمم المتحدة لا تبدو حادثًا عابرًا، بل هى رسالة سياسية وأمنية موجهة إلى المجتمع الدولي، توحى بوجود قوى داخلية أو إقليمية تسعى لعرقلة جهود التسوية، أو فرض شروط جديدة على مسار الحل السياسى فى البلاد.
ويُعتقد أن بعثة الأمم المتحدة تمثل ركيزة أساسية فى العملية السياسية الليبية، وهى الجهة التى ترعى الحوار بين الأطراف الليبية وتدير التنسيق بين مؤسسات الدولة والمجتمع الدولي.
وبالتالي، فإن محاولة استهدافها تشير إلى أن هناك من يرى فى دورها تهديدًا لمصالحه، سواء كانت قوى سياسية معرقِلة، جماعات مسلحة، أو أطراف خارجية لها وكلاء داخل الساحة الليبية.
بيئة أمنية هشة وتعدد مراكز النفوذ
تُعد طرابلس واحدة من أكثر المناطق حساسية على المستوى الأمني، ليس فقط لكونها العاصمة ومقر الحكومة المعترف بها دوليًا، بل لأنها تحتضن عشرات التشكيلات المسلحة التى تتوزع بين ولاءات متعددة، منها ما هو محسوب على الدولة، ومنها من يعمل بشكل شبه مستقل، وغالبًا ما تنشب اشتباكات بين هذه الجماعات على خلفية الصراع على السلطة أو النفوذ أو الموارد.
وسبق أن شهدت طرابلس ومحافظات أخرى هجمات واشتباكات عنيفة بين الفصائل، أبرزها ما حدث فى أغسطس ٢٠٢٣، عندما دارت معارك ضارية بين جهاز الردع وقوة دعم الاستقرار، وأسفرت عن سقوط عشرات القتلى والجرحى، فى مشهد يكرر نفسه بين الحين والآخر ويكشف عن هشاشة الوضع الأمني، رغم الجهود المعلنة لتوحيد الأجهزة الأمنية.
وفى ظل هذا التعدد، تصبح فرص تنفيذ عمليات إرهابية أو تخريبية أكثر احتمالًا، إذ توفر الفوضى الأمنية بيئة خصبة للجماعات المتطرفة أو الفاعلين غير الحكوميين للتحرك بحرية وتنفيذ أجنداتهم، سواء كانت محلية أم مدفوعة من أطراف إقليمية تسعى إلى التأثير على المشهد الليبى بما يخدم مصالحها.
الإرهاب لا يزال حاضرًا
رغم تراجع نشاط تنظيم "داعش" فى ليبيا مقارنةً بما كان عليه بين ٢٠١٤ و٢٠١٦، إلا أن خطر الإرهاب لا يزال قائمًا، لا سيما فى مناطق الجنوب والفراغات الأمنية بالصحراء، حيث تتنقل مجموعات مسلحة مرتبطة بالتنظيم، تستغل ضعف القبضة الأمنية وانعدام البنية الاستخباراتية المتكاملة بين مناطق الشرق والغرب.
وقد حذرت تقارير دولية، أبرزها من لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة، من أن الجماعات المتطرفة لا تزال قادرة على إعادة التموضع، وشن هجمات نوعية، مستفيدة من تهريب السلاح والبشر، ومن الدعم المالى غير المشروع.
وتثير هذه التحذيرات قلقًا مضاعفًا مع تصاعد الانقسامات الداخلية، إذ إن انشغال الأطراف المتصارعة بالحسابات السياسية والجهوية، يؤثر سلبًا على فعالية مكافحة الإرهاب، ويُضعف التنسيق بين الأجهزة الأمنية.
الدور الأممى تحت التهديد
منذ ٢٠١١، تلعب بعثة الأمم المتحدة للدعم فى ليبيا (UNSMIL) دورًا محوريًا فى رعاية الاتفاقات السياسية، بدءًا من اتفاق الصخيرات فى ٢٠١٥، مرورًا بمؤتمرات برلين، وانتهاءً بمبادرات الحوار التى تهدف إلى إخراج البلاد من دوامة الفوضى.
وقد واجهت البعثة تحديات متزايدة خلال السنوات الأخيرة، بينها تغيّر المبعوثين الأمميين بشكل متكرر، ورفض بعض الأطراف المحلية التدخلات الأممية، بل والتشكيك فى حياد البعثة فى بعض المواقف.
لذلك فإن محاولة استهدافها لا تنفصل عن هذا السياق، وتعكس وجود تيارات داخلية ترفض أى وصاية أو رقابة دولية على العملية السياسية.
وتثير هذه الواقعة تساؤلات حول مدى قدرة البعثة على مواصلة عملها الميداني، خاصة إذا تكررت التهديدات، وهو ما قد يحد من تحركاتها أو يُضطرها إلى اتخاذ تدابير أمنية أكثر تشددًا، بما فى ذلك تقليص حضورها فى بعض المناطق.
الأمن رهينة للخلافات السياسية
البيان الحكومي، رغم حزم لهجته، يُخفى خلفه واقعًا معقدًا يتطلب أكثر من مجرد بيانات إدانة.
فالحكومة نفسها تواجه انتقادات بشأن عدم قدرتها على احتواء الجماعات المسلحة أو إخضاعها لسلطة الدولة، كما أن حالة الاستقطاب السياسى تجعل من الصعب تنفيذ إصلاحات أمنية جذرية دون توافق وطنى شامل.
وتبرز هنا الحاجة الماسة لإعادة هيكلة قطاع الأمن الليبي، بحيث يكون موحدًا، غير مسيّس، ويخضع لمبدأ المحاسبة القانونية والمؤسسية، وهو ما لا يزال بعيد المنال فى ظل الانقسام الجغرافى والمؤسسي، وغياب الإرادة السياسية الموحدة.
ليبيا أمام مفترق طرق
يرى مراقبون محاولة استهداف بعثة الأمم المتحدة فى طرابلس، حتى وإن تم إحباطها، تمثل جرس إنذار جديد يذكر بخطورة بقاء الأوضاع على ما هى عليه، إذ لا يمكن لأى مسار سياسى أن ينجح فى ظل وجود جماعات مسلحة تتصارع على النفوذ، أو تنظيمات متطرفة تسعى لتقويض أى استقرار محتمل.
ويشير مراقبون إلى أنه وإزاء ذلك، فإن المجتمع الدولي، والأمم المتحدة خصوصًا، مطالبون بتعزيز دورهم فى دعم الحل السياسي، بالتوازى مع الضغط على جميع الأطراف لنبذ العنف، وتفكيك الميليشيات، وبناء جيش وشرطة موحدين.
فى الوقت نفسه، تبقى المسؤولية الأساسية على الليبيين أنفسهم، لإعادة بناء الثقة، وإعلاء مصلحة الوطن على الحسابات الضيقة، فإما أن تسير ليبيا نحو توحيد مؤسساتها وإنهاء حالة الانقسام، أو تظل ساحة مفتوحة لصراعات لا تنتهي، يكون فيها الأمن، والاستقرار، والسيادة، هم الضحايا.