من بين ثمار الإبداع المتناثرة هنا وهناك، تطفو على السطح قطوف دانية، تخلق بنضجها متعة تستحق التأمل، والثناء، بل تستحق أن نشير إليها بأطراف البنان قائلين: ها هنا يوجد إبداع..
هكذا تصبح "قطوف"، نافذة أكثر اتساعًا على إبداعات الشباب في مختلف ضروبها؛ قصة، شعر، خواطر، ترجمات، وغيرها، آملين أن نضع عبرها هذا الإبداع بين أيدي القراء، علّه يحصل على بعض حقه في الظهور والتحقق.
"سمية عبدالمنعم"

1- لحظةُ وجود
بعد صُراخٍ طويلٍ من جميعِ البشرِ خارج وتحت الأنقاضِ لا يسمعُه إلا أنينُ الحجارةِ حتى الهواتفُ النقالةُ أصبحت صماءَ مثلها.
تحاول امرأةٌ محشورةٌ تُحرِّك نفسَها فيزدادُ أنينُها معهم،
الغُبارُ لا يرحم، يسرحُ في عتمةِ الليلِ بين الأحجارِ يخترقُها بِصقيع.. كوَّرت نفسَها تحت أنقاضهِ، تبحثُ بعينَيها عن أولادِها وعن طفلتِها الصُّغرى، وجدتهُم بين شِقَّيْنِ كالَّلحدِ في الرُّكامِ.
تسمعُ أنينَهم ...تقاوم... تجاهدُ نفسَها يعلو صراخُها: -اصبروا
اصبروا، سيجعلُ اللهُ لنا مخرَجا. تارةً تتحسَّسُ بطنَها، يلاعبُها جنينُها، تسألُ نفسَها، وهو يتقلُّبُ في جنباتِ رَحِمها:
كنتُ أنتظرُك يا وليدي، وجودُك فرحتي. فرحةُ إخوتك البنات والجدَّة والغِربال، أرَى رحمي لك سكينةً وهدوءا
إنُّه أرحبُ من هذهِ الحياةِ الآن.
يحاورُها الجنين:
أريدُ أن أحيا بين الحياةِ لأرَى وجهَكِ يا أُمَّاه.
أرجوكَ انتظِر، لا مكان لك هنا الآن.
الجنينُ يسألُ:
لماذا ياأمَّاه؟
اصبر يا حبيبي.
أشُمُّ رائحةً غريبةً تخنُقُ أنفاسى.
ألفُ سلامةٍ عليك ياضناي... أنت حُلمي.. وآمالي.
اصبِر، رُبَّما يجعلَ الله لنا مخرَجا.
صرخَتْ صرخاتٍ مُستمِّرة ... تحتضنُ الحجارةَ الصماءَ .. تُواسيها... تبكي معها ... تساعدُها...
تعقُبها صرخةُ حياةٍ جديدة....
فاحتضنته الحجارة..ابتسَمت لَهُ
بينما وقفَتْ عيناها لا ترمِشان على وليدِها تبتسمُ لَهُ وتضحكُ ضحكاتٍ مُستمِّرة ........
يعقُبها صمتٌ طويلٌ لا ينتهي....
2- رائحةُ وُجود
رجعتُ إلى ميلادي بعد أن أخبَرَتني أُمِّي التي ربَّتني في كنَفِها، والتي دائماً ما تقول:
أنتَ أوَّلُ فرحَتي وآخِرُها وابني الوحيدُ في الوُجود ، أعطتني كلَّ حنانِ الأُمومةِ..
كلما ناديتُها يا أُمِّي أرى نورَ وجهِها يزغردُ في عينينا ، ترفعُني مِن على الأرضِ وحتى لما كبرت.
هذا النورُ أعطاني نورَ الحياةِ من علومِها وكرامةٍ في مجتمعٍ أصبحتُ فيه جزءاً منه.
لمّا عرَفتُ السببَ في وجُودى في حُضنِها
حكَت لي عن أهلي.. وترجَّتني ألا أترُكها.
.. تركتُ جدرانَ بيتي الدافئ، بحثاً عن عائلتي.. عن أُمِّي.. عن رائحتِهما من بين أنقاضِ بيتِنا.
تمنَّيتُ أن أرى وجهَهم.
سألتُ كثيراً عن عائلتي
أرى منهم صمتاً. هل خوفاً علىًّ؟
تأتي على مسامِعي أقاويلُ أخرى كثيرة
مَن قال: هُنا دُفِنُوا .. ومَن قال:
هناك ناموا مع الأَجداد.
أمشى في عَتمةِ الليلِ أرى وجوهًا تُتابعني، تسألني أين أنت ذاهب في هذا الوقت يابُنَيّ؟!
كلما اقتربتُ، يضايقُني نورٌ أصفرَ أتاني من لمبةٍ مُعلَّقةٍ بفروعِ شجرةٍ عتيقة.. وعلى الفَورِ أخرجتُ هاتفي ومشيتُ على نورِ كشَّافِه ... تقابلُني شواهدُ تاريخ أجدادي.
جسمي يعتريه الخوفُ والرَّهبة، أواصلُ شريطَ الذكرياتِ هل أشبهُ أمِّي؟
أبي؟ أمِ الإثنَين؟.
من بينِ الصَّمت؛ يتملَّكني الفزعُ والخوف ... أتلو سورةَ "الإخلاص": أشعرُ براحةٍ وطُمأنينة.
وقفتُ أُعِيدُ سورةَ "الإخلاص"
وجدتُ في مُخَيِّلَتي أنواراً كالبرقِ في سماءِ عقلي ترسمُ وجهَ أُمِّي تجذبُني بقُوَّةٍ .. ارتعشَت مفاصلي
صدى صوت:
"لا تخَفْ... نحن هنا"
لم أرَ شاهداً لعائلتي.
فأصبحتُ شاهدا ..
ع
سامِحيني لم أعرفْ مكانَك إلّا بالأمس جئتُ إليكِ وتُسابقُني أنفاسي عبرَ الطُرُقِ ياأمّاه؛
أحسستُ أنِّي طفلٌ رضيعٌ .. احتضَنتني بين ضلوعِها …بحثتُ عن ثَديِها، التقمْتُه وهي تمسحُ بكَفَّيها دموعي المُنهمِرة على وجهي
وحنينُ صوتِها يُهدِّئ من رَوعى
_أصبحتَ رجُلاً يا وليد.
فرحتُ وهي تناديني باسمي.
أفزعني مواءُ قِطَّةٍ تتحوّلُ لألوانٍ مـختلفة
يزدادُ حجمُها ويكبُر ثم تصغر تصغر حتى عادت إلى سيرتِها الأُولى..
عاد الصمت .....
أراها مرَّةً أُخرى
تجري وتدخلُ بين فتحاتِ أبوابٍ مُغلَقة،
كأنّها تجري في عِبِّي، وجسمي يرتعش... عندما رأيتُها تحت إحداهما تفترش دماً، أيقنت أنَّ الأرضَ ترتعشُ بي وأدورُ مع هزَّاتِها كأنُّه دُوَّارُ بحر.
من الجانب الآخر اخترقَ أُذُني صوتٌ أُحِبٌُه يُزلزلُني عشتُ معه يشقُّ الظلمةَ مع أذانِ الفجرِ كصوتِ أُمِّي
لا تخَف يا وليد .....لا تخف.
صرتُ تجاهَ الصَّوت....
تمت