تأتي افتتاحية العدد (508) من صحيفة النبأ، الصادرة عن تنظيم داعش فى 14 أغسطس 2025، فى لحظة حساسة من مسار التنظيم، حيث يشهد وجوده فى العراق وسوريا تراجعاً كبيراً على المستويين الميدانى والعسكري. فمنذ سقوط "الخلافة المكانية" فى الموصل والرقة عام 2017، لم يتمكن التنظيم من استعادة سيطرته الإقليمية السابقة، وإنما لجأ إلى تكتيكات حرب العصابات والكمائن والعمليات النوعية المحدودة. هذا الواقع فرض على التنظيم اعتماد "الخطاب" بديلاً عن "الأرض"، أى إعادة إنتاج حضوره عبر اللغة والرمزية، بعد أن عجز عن تثبيت حضوره عبر السيطرة الجغرافية.
افتتاحية النبأ عدد (508) محاولة لإعادة تدوير خطاب داعش القديم بوجه جديد
فى هذا السياق، تمثل الافتتاحية محاولة لإعادة التأكيد على ما يسميه التنظيم "المركزية العراقية"، أى إبراز العراق كنقطة الانطلاق والمرجعية الأولى للمشروع الداعشي، وتقديم "أجناد العراق" على أنهم الطليعة التى حافظت على نقاء الفكرة الجهادية.
هذه الاستراتيجية تستهدف معالجة شعور الانكسار داخل صفوف المؤيدين والأنصار، وإعادة زرع الثقة بأن التنظيم لا يزال محوراً أساسياً فى المشهد الجهادى العالمي، حتى بعد خسارة مساحات شاسعة من الأرض والسكان.
كما أن النص يعكس حاجة التنظيم إلى إعادة التموضع الرمزي، وذلك عبر إحياء ذاكرة "الانتصارات الماضية" مثل مواجهة الصحوات فى العراق والشام، وتضخيم صورة "الصمود" أمام التحالفات الدولية والإقليمية.
من هنا، نجد أن الافتتاحية لا تُقدّم قراءة واقعية للواقع الميدانى بقدر ما تُحاول ترسيخ سردية بطولية، توازن الشعور بالهزيمة وتحوّله إلى وقود تعبوى جديد. ولا يمكن فصل هذه الافتتاحية عن السياق الأمنى الأوسع؛ ففى العراق تحديداً تكثفت الضربات الأمنية ضد الخلايا النائمة للتنظيم خلال عامى ٢٠٢٤ و٢٠٢٥، مع تنسيق أكبر بين الأجهزة العراقية والتحالف الدولي.
هذه العمليات أدت إلى قتل أو اعتقال قيادات ميدانية بارزة، ما جعل التنظيم بحاجة ماسّة إلى إعادة بث الروح فى مقاتليه وأنصاره عبر خطاب يرفع المعنويات ويستنهض الهمم، مستفيداً من أدواته الإعلامية كصحيفة النبأ. إلى جانب ذلك، تحاول الافتتاحية استثمار البيئة الإقليمية المتوترة. فمن خلال الربط بين العراق وفلسطين، وبين المعاناة المحلية والمشروع الجهادى الكوني، يسعى داعش إلى الظهور كلاعب "عابر للحدود"، لا يتأثر بالهزائم المحلية، بل يواصل مسيرته نحو أفريقيا وخراسان وسائر الولايات التابعة له.
هذه الرسائل تكشف عن سعى التنظيم لإقناع جمهوره بأنه لا يزال "المحرّك الأساسي" للجهاد العالمي، رغم الضغوط العسكرية والسياسية.
وعليه، فإن هذه الدراسة النقدية ستتناول خطاب الافتتاحية من زوايا متعددة: تحليل آليات صناعة البطولة والرمزية، دراسة استراتيجية المظلومية وتوظيفها فى بناء الهوية الجهادية، كشف الرسائل المسكوت عنها والمغيّبة عمداً، إضافة إلى تقييم الأثر المحلى والإقليمى لمثل هذه الخطابات على تنامى التطرف والإرهاب. فالمسألة لا تقتصر على مجرد نص دعائي، بل تتجاوز ذلك لتُعبّر عن محاولة متجددة من التنظيم لإعادة إنتاج نفسه كفاعل مركزى فى مشهد العنف العابر للحدود.
ثانياً: التحليل الخطابي
استدعاء الذاكرة التاريخية
تقوم الافتتاحية على استدعاء متعمد للذاكرة التاريخية المرتبطة بمسار تنظيم داعش فى العراق، حيث تعود إلى الحديث عن "عقدين من الجهاد" لتصوير المسيرة وكأنها متواصلة دون انقطاع، بدءاً من بواكير المواجهة مع القوات الأمريكية بعد عام ٢٠٠٣ وصولاً إلى اللحظة الراهنة فى ٢٠٢٥.
هذا الاستدعاء الزمنى لا يهدف إلى التوثيق التاريخى بقدر ما يسعى إلى صناعة سردية متماسكة توحى بالاستمرارية، وتُخفى لحظات التراجع والانكسار. وبذلك، يعمل النص على تقديم التنظيم باعتباره امتداداً طبيعياً لمشروع جهادى طويل المدى، لا ينهار أمام الهزائم، بل يتجاوزها ليعيد تشكيل نفسه فى كل مرحلة.
غير أن هذه الاستراتيجية الخطابية تُخفى عن عمد محطة مفصلية كبرى، وهى سقوط "الدولة الإسلامية" فى الموصل والرقة عام ٢٠١٧، التى شكّلت ضربة استراتيجية غير مسبوقة للتنظيم على المستويين العسكرى والرمزي. فبدلاً من الاعتراف بالهزيمة وإبراز آثارها، يتجاهل النص هذه اللحظة ويقفز فوقها ليعيد صياغة التاريخ على أنه سلسلة من "الصمود والانتصارات". بذلك، يسعى التنظيم إلى إعادة ترسيخ صورته ككيان "راسخ" يتجاوز حدود الزمان والجغرافيا والهزائم العسكرية، مقدماً نفسه ليس كحركة عابرة أو ظاهرة مؤقتة، بل كفاعل تاريخى ثابت يستمد شرعيته من فكرة "الجهاد المستمر" الذى لا ينقطع مهما تبدّلت الظروف.
صناعة البطولة
تعمد الافتتاحية إلى استخدام لغة مشحونة بالرموز البطولية والتعابير الملحمية مثل "قطب الرحى" و"فوارس العراق" و"نواة جيوش الفتح"، فى محاولة لتصوير مقاتلى داعش على أنهم يشكّلون جوهر المشروع الجهادى وأصله الصلب.
هذا الاستخدام للغة ليس عفوياً، بل يعكس استراتيجية مقصودة لصناعة البطولة وتكريس صورة "المقاتل النموذجي" الذى يتحمّل الأعباء نيابة عن الأمة، ويقف فى مواجهة كل القوى الدولية والإقليمية. فالتنظيم يريد من جمهوره أن يرى فى "أجناد العراق" ليس مجرد مقاتلين، بل رموزاً أسطورية تمثل الشجاعة والتضحية والفداء، بما يجعلهم أيقونات عابرة للزمان والمكان. وفى مقابل هذا البناء البطولي، تتعمد الافتتاحية شيطنة بقية الفصائل الإسلامية المسلحة، من خلال نزع الشرعية عنها ووصفها بالخيانة والانحراف.
فالإخوان المسلمون يُقدَّمون بوصفهم أصحاب "مشاريع ضرار"، بينما يُصوَّر قادة مثل "الضاري" و"الجولاني" كأمثلة على الانحراف عن خط الجهاد الأصيل.
رغم أنهم لا يختلفون عنهم فى النوع كإرهابيين ولكن الاختلاف فى الدرجة، بهذا التوصيف، يسعى التنظيم إلى احتكار الشرعية الجهادية وتقديم نفسه كالممثل الوحيد "الصحيح" للمشروع الإسلامي، فى حين يُجرّد الآخرون من أى مشروعية دينية أو سياسية. إنها عملية إعادة ترميز متعمدة: داعش هو البطل الأصيل، وكل ما عداه مجرد انحراف أو خيانة.
إعادة إنتاج خطاب المظلومية
تعتمد الافتتاحية على إعادة إنتاج خطاب المظلومية بوصفه أحد الأعمدة المركزية فى الدعاية الداعشية. فهى تكرّر باستمرار مصطلحات مثل "الحكومات الرافضية" و*"الخيانة"* و*"التواطؤ"* و*"السجون والمخيمات"*، لتصوير التنظيم وأتباعه كضحايا لحملة استهداف ممنهجة تتجاوز الحدود الوطنية لتأخذ بعداً طائفياً وسياسياً وعالمياً.
بهذا التوصيف، تُرسم صورة لمقاتلى التنظيم باعتبارهم الفئة الأكثر اضطهاداً فى العالم الإسلامي، المحاصرين من جميع الجهات، والمستهدفين ليس فقط من القوى الدولية وإنما أيضاً من "أبناء جلدتهم" الذين وُسموا بالخيانة والعمالة.
إن هذا الخطاب يعمل على تغذية مشاعر الغضب والاحتقان، وتحويل المعاناة الحقيقية – كالسجون والملاحقات – إلى رصيد تعبوى يمنح التنظيم شرعية الاستمرار. والرسالة الضمنية التى يحملها هذا البناء الخطابى هى أن داعش ليس مجرد حركة مقاتلة، بل هو "الضحية الأولى" لمؤامرة كونية تستهدف الإسلام من خلال استهدافه. ومن هذا المنطلق، يُستنتج أن ما يقوم به التنظيم من عنف وقتل هو "رد فعل مشروع" على هذا الاضطهاد المزعوم، وأن الانتقام حق طبيعى ودينى فى آن واحد. هكذا يتحول خطاب المظلومية إلى أداة لتبرير الإرهاب وإعادة إنتاجه؛ فهو يقدّم الضحية فى ثوب البطل، ويقلب المعادلة بحيث يظهر القاتل وكأنه المُستضعف الذى يُدافع عن نفسه. وبذلك، يغدو العنف وسيلة أخلاقية لا جريمة، ويصبح التنظيم فى عيون أنصاره ممثلاً للعدل الإلهى فى مواجهة ما يصوره بأنه ظلم عالمى ممنهج.
الرسائل المسكوت عنها
من أبرز ملامح الافتتاحية ما يمكن وصفه بـ الرسائل المسكوت عنها، حيث يتعمد النص تغييب جانب جوهرى من تاريخ التنظيم وممارساته.
فبينما يصوّر نفسه كضحية للاضطهاد الطائفى والسياسي، يتجاهل بالكامل المجازر التى ارتكبها بحق مكونات المجتمع العراقى كافة: من الشيعة الذين استُهدفوا على الهوية، إلى السنة الذين عانوا من بطشه عندما رفضوا الانخراط فى مشروعه، فضلاً عن المسيحيين والإيزيديين الذين تعرضوا لعمليات قتل وتهجير واستعباد موثقة.
هذا القفز على الحقائق يعكس محاولة ممنهجة لقلب الأدوار: الجلاد يُقدَّم فى ثوب الضحية، والضحايا الحقيقيون يُمحَون من الذاكرة.
إلى جانب ذلك، يُلاحظ تغييب متعمد للانقسامات الداخلية التى عصفت بالتنظيم خلال العقد الأخير. فالنص يتحدث عن "ثبات" و"تماسك" مقاتليه، لكنه لا يذكر الصراعات الدموية بين أجنحته، ولا الانشقاقات المتكررة التى أضعفت بنيته الفكرية والتنظيمية. فواقع التنظيم يكشف عن صراعات نفوذ بين قياداته، وخلافات حول الاستراتيجية والمنهج، وصلت فى بعض الأحيان إلى الاقتتال الداخلي. إلا أن الخطاب الدعائى يتجنب هذه الحقائق، لأنه يدرك أن الاعتراف بها يضرب صورة "الوحدة الصلبة" التى يحاول تسويقها لأنصاره.
كما يغيب عن الافتتاحية الاعتراف بالحقيقة الأكثر إيلاماً للتنظيم: فقدان الحاضنة الشعبية التى كانت فى لحظة ما توفر له مجال الحركة والتجنيد. فالمجتمعات المحلية فى العراق وسوريا، بعد التجربة القاسية مع حكم "الدولة الإسلامية"، باتت ترى فى التنظيم خطراً لا خلاصاً، وتتعامل معه بوصفه تهديداً لأمنها واستقرارها، لا مشروعاً للتحرير أو العدالة. لكن النص الدعائى يصرّ على إيهام القارئ بوجود قاعدة جماهيرية داعمة ومتواصلة، وكأن هناك التفافاً شعبياً حول "أجناد العراق"، وهو ما لا يتسق مع الواقع.
هذه الاستراتيجيات فى تغييب الحقائق تكشف عن آلية خطابية مزدوجة: من جهة، إبراز المظلومية لتوليد التعاطف؛ ومن جهة أخرى، إخفاء الجرائم والانقسامات وفقدان الدعم الشعبى حتى لا تنهار الصورة التى يحاول التنظيم تصديرها. إنها عملية إعادة رسم للواقع بما يخدم الهدف الدعائي: الإقناع بأن داعش ما زال رقماً صعباً، وأنه يتمتع بشرعية وامتداد شعبي، رغم أن الوقائع على الأرض تكذب ذلك تماماً.
ثالثاً: الدلالات
محلياً (فى العراق والشام)
على المستوى المحلى فى العراق والشام، تسعى الافتتاحية إلى إعادة إحياء رمزية "الجهاد العراقي" باعتباره النواة الأولى للمشروع الداعشي.
فالخطاب يصرّ على تصوير العراق كمنطلق الفعل "الجهادى الأصيل" الذى ألهم العالم الإسلامي، متجاوزاً الهزائم العسكرية التى منى بها التنظيم منذ ٢٠١٧. هذه الاستراتيجية الخطابية تهدف إلى مواجهة السردية السائدة عن "هزيمة داعش" وإحلال سردية بديلة تؤكد على أن المشروع لم ينتهِ، بل ما زال حياً ومتجذراً فى الأرض العراقية.
كما يبرز فى النص توظيف متكرر لصور السجون والمخيمات وما يرتبط بها من معاناة إنسانية، فى محاولة لإثارة مشاعر الغضب الشعبى ضد الدولة العراقية وحلفائها من الفصائل المسلحة.
فالخطاب يعمد إلى تصوير الأسرى والمعتقلين بوصفهم "شهداء مؤجلين" أو "ضحايا ظلم طائفي"، ليوظف معاناتهم فى تعزيز شرعية التنظيم وإعادة إنتاج حالة من التعاطف مع عناصره.
بهذا، تتحول معاناة السجناء إلى أداة خطابية تهدف إلى تأليب الرأى العام المحلي، وإيجاد بيئة قد تسمح للتنظيم بإعادة نسج بعض الروابط مع المجتمعات المتضررة. إلى جانب ذلك، يواصل النص تبنى خطاب طائفى حاد ضد "الرافضة"، وهو توصيف يكرره التنظيم باستمرار للإشارة إلى المكوّن الشيعي. هذا الخطاب ليس مجرد شتيمة دعائية، بل يمثل أداة استراتيجية مقصودة لتأجيج الانقسام المجتمعى وتعميق الشرخ بين مكونات الشعب العراقى والسوري.
فمن خلال زرع بذور الفتنة وإذكاء الصراع الطائفي، يأمل التنظيم فى استعادة بيئة الفوضى التى تمكنه من إعادة التمدد، وهو ما يعكس إدراكه أن بقاءه مرتبط دائماً بتأجيج النزاعات الداخلية لا بتسويتها.
إقليمياً ودولياً
على الصعيد الإقليمي، تعمل الافتتاحية على الربط الرمزى بين العراق وفلسطين، من خلال مقولة "من باع بغداد لن يشترى الأقصى".
هذا الربط ليس عفوياً، بل يمثل محاولة واعية لاستثمار المشاعر الشعبية العميقة تجاه القضية الفلسطينية، وجذبها نحو أجندة داعش.
فالتنظيم يحاول تقديم نفسه باعتباره الطرف الأكثر صدقاً فى نصرة القضايا المركزية للأمة، مقابل اتهام الحكومات العربية والفصائل الإسلامية الأخرى بالعجز أو الخيانة.
ومن خلال هذا الخطاب، يسعى التنظيم إلى الاستحواذ على الرأسمال الرمزى للقضية الفلسطينية، وجعله أداة لتعزيز شرعيته فى الوعى العربى والإسلامي. أما على المستوى الدولي، فإن تكرار عبارة أن "أمريكا تحسب لهم ألف حساب" يعكس حرص التنظيم على إظهار نفسه كلاعب مؤثر فى السياسات الأمنية والعسكرية للقوى الكبرى.
فبدلاً من الاعتراف بحقيقة الانحسار الميداني، يحاول الخطاب الإيحاء بأن قرارات الانسحاب أو البقاء الأمريكى فى العراق وسوريا مرهونة بخطر "أجناد العراق". هذا البناء الخطابى يهدف إلى تضخيم تأثير التنظيم، وتقديمه كتهديد استراتيجى عابر للحدود لا يمكن تجاهله، فى محاولة لتعويض فقدان السيطرة المكانية بخلق صورة قوة رمزية تفرض حضورها فى مراكز صنع القرار العالمي.
إلى جانب ذلك، يأتى استحضار مناطق مثل إفريقية وخراسان كإشارة إلى البعد التوسعى العابر للحدود. فالافتتاحية تتعمد التذكير بأن مشروع داعش لم يعد محصوراً فى جغرافيا العراق والشام، بل صار شبكة ممتدة تضم فروعاً فى آسيا وإفريقيا.
بهذا يرسل التنظيم رسالة مزدوجة: من جهة يؤكد ولاءه وقيادته المركزية لهذه الفروع، ومن جهة أخرى يوجّه خطاباً داخلياً لعناصره يذكّرهم بأن مشروع "الخلافة" ما زال عالمياً، وأن العراق ما زال "القلب" الذى يضخ الدماء فى شرايينه.
إنها محاولة للحفاظ على تماسُك "العلامة الداعشية" عالمياً، رغم الانكسارات المحلية والإقليمية.
رابعاً: الأثر على تنامى الإرهاب
إن قراءة هذه الافتتاحية تكشف عن الأهداف الأعمق التى يسعى تنظيم داعش لتحقيقها عبر خطابه الدعائي، وهى أهداف تتجاوز مجرد الترويج لصورة رمزية أو الدفاع عن الماضي. فالغاية المركزية تكمن فى إعادة بعث التنظيم كفاعل حيّ وقادر على التأثير، سواء فى البيئات المحلية أو فى الفروع الإقليمية والدولية.
ومن خلال تحليل النص، يمكن تبيّن أربعة محاور أساسية توضّح أثر هذا الخطاب فى إعادة تنشيط الإرهاب، وتغذية العنف، وتطبيع ثقافة الموت فى أوساط معينة.
إعادة التعبئة
تسعى الافتتاحية إلى تقديم التنظيم فى صورة "المتماسك" و"الثابت"، وذلك عبر الإصرار على أنه ما يزال فى "مرحلة ثبات" وليس فى حالة هزيمة أو اندحار.
هذه الصياغة الخطابية تهدف إلى بثّ الروح المعنوية فى صفوف الكوادر المتبقية، وإقناعهم بأن ما يمرون به ليس سوى مرحلة عابرة ضمن "سُنن الابتلاء".
إن هذا الخطاب يشكّل أداة تعبئة داخلية، إذ يخفف من وقع الهزائم العسكرية، ويمنح الأتباع شعوراً زائفاً بالثقة والاستمرارية.
وعبر هذا الإطار، يُعاد تقديم "التضحيات" والخسائر باعتبارها جزءاً من مسار طبيعى يؤدى إلى النصر النهائي.
فالتنظيم يدرك أن عناصره بحاجة إلى خطاب يمنعهم من الاستسلام أو الانشقاق، لذلك يستخدم أسلوب إعادة التأويل: كل هزيمة هى "اختبار"، وكل انسحاب هو "مقدمة للعودة".
هذا النوع من السرد يساهم فى الحفاظ على تماسك ما تبقى من الخلايا، ويُبقى على إمكانية إعادة التشغيل الميدانى متى توفرت الفرص.
تغذية الانقسام
يلعب النص دوراً محورياً فى تأجيج المظلومية الطائفية عبر استخدام لغة حادة تجاه "الرافضة" والحكومات المتحالفة مع الغرب.
هذا الخطاب يعيد إنتاج الانقسام العمودى فى المجتمعات، حيث يتم استدعاء الانتماء الطائفى كأداة تحريضية تضع فئة من المواطنين فى مواجهة فئة أخرى.
والنتيجة هى إعادة تهيئة البيئة الحاضنة التى تشكل الوقود الأساسى لأى مشروع متطرف.
إلى جانب ذلك، يُوظَّف خطاب المظلومية فى تحفيز مشاعر الغضب والانتقام لدى الأفراد المهمّشين أو المتضررين اجتماعياً. فحين يُقدَّم التنظيم بوصفه المدافع عن "المستضعفين" فى مواجهة "الطغاة"، فإنه يستثير تعاطف بعض الشرائح، حتى لو لم تكن مؤيدة له بالكامل.
هذا التعاطف الرمزى يكفى أحياناً لتوفير غطاء اجتماعى أو بيئة متسامحة مع العنف، وهو ما يفتح الباب أمام إعادة تنامى الإرهاب.
التأثير على الفروع
من خلال التأكيد المتكرر على أن "المسيرة لم تتوقف" وأن "سنابك الخيل وصلت إلى إفريقيا وخراسان"، يسعى التنظيم إلى إعادة تثبيت مركزية العراق بوصفه المنبع الشرعى للجهاد العالمي.
هذا الخطاب يخاطب الفروع التابعة له فى إفريقيا وآسيا الوسطى بشكل مباشر، فى محاولة لربطها مجدداً بـ"المركز الأم"، وإظهار أن الشرعية الفكرية والرمزية ما زالت تصدر من العراق.
هذا النوع من الرسائل لا يخدم فقط وحدة الخطاب، بل يعزز أيضاً التواصل الأيديولوجى والتنظيمى بين المركز والفروع.
فحين تُذكَّر "ولايات" داعش فى إفريقيا وخراسان بأن العراق هو القلب النابض، فإنها تجد فى ذلك مبرراً للاستمرار فى رفع راية التنظيم، وربما تعزيز وتيرة عملياتها. والنتيجة هى خلق دائرة تغذية متبادلة: المركز يزود الأطراف بالشرعية، والفروع تزود المركز بالإنجازات الميدانية التى تلمّع صورته.
تطبيع العنف
من أخطر ما تحمله الافتتاحية هو تطبيع ثقافة العنف والموت من خلال ربط "الشهادة" بالبطولة و"القتل" بالتضحية المجيدة.
فالنص يقدّم الموت ليس كمأساة بل كأعلى درجات الولاء، وكطريق مختصر إلى الخلود والرفعة.
هذا الخطاب يتعمّد تمرير قيمة "استعذاب الموت" كمعيار للتدين والالتزام، ما يجعل العنف يبدو خياراً أخلاقياً وليس انحرافاً.
والأثر المباشر لهذا التطبيع يظهر فى قدرته على استهداف الأجيال الشابة فى البيئات الهشة، حيث يفتقر الشباب إلى بدائل فكرية أو اقتصادية تغنيهم عن هذا النوع من الإغراءات.
إن تحويل الموت إلى بطولة، والانتحار إلى جهاد، يخلق أرضية خصبة لتكاثر الأفكار المتطرفة، ويمنح الإرهاب قدرة متجددة على التجنيد والتوسع. وهنا يكمن الخطر الأكبر: أن يتحول العنف من حالة استثنائية إلى ثقافة متوارثة.
خلاصة نقدية
افتتاحية النبأ (٥٠٨) هى محاولة لإعادة تدوير خطاب داعش القديم بوجه جديد، قائم على ثلاث ركائز: صناعة البطولة، استثمار المظلومية، وتوظيف الرمزية العراقية.
لكنّها فى الحقيقة تكشف عمق مأزق التنظيم: عجز عن فرض نفسه ميدانياً، فلجأ إلى ملء الفراغ بالرمزيات الخطابية.
الرسالة الأخطر هى أن التنظيم لم يزل يشتغل على المخيال الجمعى للمسلمين عبر وصل العراق بفلسطين، وربط الجهاد المحلى بالمشروع الكوني، وهو ما يستدعى مواجهة فكرية وخطابية موازية، لا تقل عن المواجهة الأمنية والعسكرية.