الاحد 17 اغسطس 2025 | 04:08 مساءً

ميزان المدفوعات - صورة أرشيفية تعبيرية
1.9 مليار دولار عجز مقارنة بفائض 4.1 مليار دولار العام المالي السابق
تحسن في الحساب التجاري نتيجة تراجع العجز إلى 13.2 مليار دولار مقارنة بـ17.1 مليار العام الماضي
العجز المسجل لا يزال في حدود يمكن إدارتها واستمراره دون معالجة قد يؤثر على التصنيف الائتماني لمصر
شهد الاقتصاد المصري خلال الفترة من يوليو 2024 حتى مارس 2025 تطورات متباينة على صعيد ميزان المدفوعات، وهو المؤشر الأشمل الذي يرصد تعاملات الدولة المالية مع الخارج ويعكس مدى توازن الاقتصاد وقدرته على توليد العملة الصعبة.. فعلى الرغم من التحسن الملحوظ في بعض مكونات الحساب الجاري، وخاصة في الربع الثالث من العام المالي، إلا أن ميزان المدفوعات ككل انزلق إلى عجز بقيمة 1.9 مليار دولار، مقارنة بفائض بلغ 4.1 مليار دولار في الفترة نفسها من العام المالي السابق، ما أثار تساؤلات واسعة حول أسباب هذا التحول وتداعياته المحتملة.
ميزان المدفوعات يُعد أداة رئيسية لفهم الوضع المالي الخارجي لأي اقتصاد، ويتكون من ثلاثة أجزاء رئيسية ، الجزء الأول هو الحساب الجاري، الذي يشمل الصادرات والواردات من السلع والخدمات، بالإضافة إلى دخل الاستثمارات وتحويلات العاملين بالخارج. والجزء الثاني هو الحساب الرأسمالي والمالي، والذي يعكس تدفقات رؤوس الأموال والاستثمارات والقروض. أما الجزء الثالث فيتعلق بحساب الاحتياطيات الرسمية، الذي يستخدمه البنك المركزي لتعديل الاختلالات الظاهرة في الحسابين السابقين.
خلال الأشهر التسعة الأولى من العام المالي الجاري، أظهر الحساب الجاري تحسنًا ملموسًا، إذ تراجع العجز إلى نحو 13.2 مليار دولار مقارنة بـ17.1 مليار دولار في الفترة المناظرة من العام المالي الماضي، بنسبة انخفاض بلغت 22.6 %.
هذا التحسن جاء مدفوعًا بعدة عوامل إيجابية تركزت في الربع الثالث (يناير – مارس 2025)، حيث انخفض العجز بشكل لافت بنسبة 69.3 % عن نفس الربع من العام السابق. وقد ساهم في هذا التراجع الحاد الارتفاع القوي في تحويلات المصريين العاملين بالخارج بنسبة 86.6 %، وهي قفزة كبيرة تعكس تحسن الثقة في الاقتصاد المصري واستقرار القنوات الرسمية لتحويل الأموال.
كما ساهمت السياحة بقوة في دعم ميزان الخدمات، إذ ارتفعت إيراداتها بنسبة 23%، في ظل تحسن حركة السفر وزيادة معدلات الإشغال السياحي. إلى جانب ذلك، واصلت قناة السويس أداءها الإيجابي رغم الاضطرابات التي شهدتها المنطقة في أواخر 2023، ما عزز الفائض في ميزان الخدمات. وفي السياق نفسه، سجلت الصادرات السلعية غير البترولية نموًا بنسبة 56.9 %، وهو ما ساعد على تقليص العجز التجاري غير البترولي، بينما تحسن عجز ميزان دخل الاستثمار بنسبة 5 %، في إشارة إلى ضبط النفقات المرتبطة بتحويل الأرباح والاستثمارات إلى الخارج.
ورغم هذه المؤشرات المشجعة على صعيد الحساب الجاري، إلا أن الجانب المالي من ميزان المدفوعات شهد تراجعًا حادًا.
فقد انخفضت صافي التدفقات المالية إلى الداخل من 20 مليار دولار خلال نفس الفترة من العام السابق إلى 7.7 مليار دولار فقط في العام الحالي. ويُعزى هذا الانخفاض الكبير إلى غياب صفقات استثنائية كبرى مثل صفقة «رأس الحكمة» التي أُبرمت في 2024 وساهمت حينها في تحقيق قفزة مؤقتة في الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة.
كما عكست هذه التراجعات حالة من الحذر لدى المستثمرين الأجانب الذين ما زالوا يترقبون تطورات السياسة النقدية وسعر الصرف، بالإضافة إلى توجهات الحكومة نحو الإصلاحات الهيكلية.
وبفعل هذا التراجع في الحساب الرأسمالي والمالي، تحول ميزان المدفوعات الكلي إلى تسجيل عجز بقيمة 1.9 مليار دولار، على الرغم من التحسن في الحساب الجاري.
وهو ما يعكس خللًا في قدرة الاقتصاد على جذب تدفقات مالية كافية لتعويض العجز التجاري. هذا العجز قد يضغط على الاحتياطي النقدي للبنك المركزي، الذي قد يضطر إلى استخدام جزء من احتياطياته بالعملات الأجنبية لتمويل الفجوة في المدفوعات أو تهدئة سوق الصرف، ما يعيد إلى الواجهة مناقشة مدى استدامة الموارد الدولارية في الاقتصاد المصري.
يمثل هذا التحول من الفائض إلى العجز تحديًا واضحًا لصناع القرار، خاصة أنه يحدث في ظل تحسن بعض المؤشرات الأساسية، مما يعني أن الأزمة لا تكمن فقط في جانب التجارة أو التحويلات، بل ترتبط بصورة أساسية بقدرة الاقتصاد على جذب استثمارات أجنبية حقيقية، وتحقيق استقرار طويل الأجل في مصادر النقد الأجنبي.
كما أن استمرار الاعتماد على صفقات استثنائية أو تدفقات قصيرة الأجل بدلًا من الاستثمارات الإنتاجية المستدامة، يكشف عن هشاشة القاعدة التمويلية الخارجية.
في هذا السياق، تبدو الحاجة ملحة إلى تبني حزمة من السياسات المتكاملة التي تركز على تعميق الإنتاج المحلي القابل للتصدير، وتحسين بيئة الاستثمار، وتطوير القطاعات التي تدر عملة صعبة مثل السياحة والنقل والخدمات اللوجستية.. كما ينبغي العمل على ضبط الواردات غير الضرورية للحد من استنزاف النقد الأجنبي، إلى جانب تعزيز تحويلات المصريين في الخارج من خلال توفير حوافز وضمانات للقنوات الرسمية.
ورغم أن العجز المُسجل لا يزال في حدود يمكن إدارتها مقارنة بتجارب سابقة، إلا أن استمراره دون معالجة قد يؤثر على التصنيف الائتماني لمصر، ويرفع من تكلفة الاقتراض الخارجي، كما قد يؤدي إلى تآكل تدريجي في احتياطيات النقد الأجنبي ما لم تُتخذ خطوات جادة لسد الفجوة التمويلية عبر استثمارات حقيقية وليست ظرفية.
في النهاية، يعكس تقرير ميزان المدفوعات للربع الثالث من 2024/2025 صورة مزدوجة للاقتصاد المصري: من جهة، تحسن نسبي في الأداء التشغيلي خاصة في الحساب الجاري، ومن جهة أخرى، ضعف في مصادر التمويل الخارجي طويل الأجل.. ولعل هذا التباين يسلط الضوء على ضرورة بناء نموذج اقتصادي أكثر استدامة لا يعتمد على المعالجات المؤقتة بل على تحفيز الإنتاج والاستثمار الحقيقي.
اقرأ ايضا
إخلاء مسؤولية إن موقع عاجل نيوز يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.