بمناسبة ذكرى رحيل المفكر الاقتصادي الكبير سمير أمين في 12 أغسطس 2018، نستعيد سيرة واحد من أبرز العقول النقدية التي أثرت الفكر الاقتصادي والسياسي في القرن العشرين. وُلد أمين عام 1931 في القاهرة لأب مصري وأم فرنسية، في بيئة متعددة الثقافات واللغات، ما أتاح له تكوين رؤية منفتحة وعابرة للحدود منذ الصغر. درس الاقتصاد في فرنسا حيث حصل على درجة الدكتوراه، لكنه لم ينقطع يومًا عن قضايا وطنه ومحيطه العربي والأفريقي، بل ظل منخرطًا في النقاشات الكبرى حول التنمية، والتحرر، والعدالة الاجتماعية.
تميّز أمين بكونه واحدًا من الأسماء اللامعة في حقل الاقتصاد السياسي ونقد الرأسمالية العالمية، خاصة من منظور "نظرية التبعية" و**"المركز والأطراف"**. لم يكن مجرد باحث أكاديمي، بل كان مثقفًا عضويًا بالمعنى الغرامشي، يربط بين التحليل العلمي والعمل الميداني، ويسعى إلى صياغة بدائل عملية للنظام الاقتصادي العالمي القائم. وعلى مدار مسيرته، ظل يؤكد أن استقلالية القرار الاقتصادي والسياسي لشعوب الجنوب هي المدخل الحقيقي لأي مشروع تحرري، وأن مقاومة الهيمنة الرأسمالية تتطلب رؤية متكاملة تربط بين البعد الوطني والأممي.
أبرز أفكاره وإسهاماته
نظرية التبعية
رأى سمير أمين أن فهم النظام الرأسمالي العالمي يتطلب النظر إليه كهيكل هرمي غير متكافئ، حيث تحتل دول "المركز" – وهي الدول الصناعية المتقدمة في أوروبا وأمريكا الشمالية واليابان – موقع الهيمنة الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية. في المقابل، توجد دول "الأطراف" – أي البلدان النامية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية – في موقع التبعية البنيوية. هذه التبعية ليست مجرد تخلف اقتصادي عابر، بل هي نتاج تاريخ طويل من الاستعمار، وما بعد الاستعمار، حيث جرى دمج اقتصادات الأطراف في السوق العالمية على نحو يخدم مصالح المركز بالدرجة الأولى.
في هذا السياق، أكّد أمين أن العلاقة بين المركز والأطراف تقوم على استغلال مستمر للموارد الطبيعية والبشرية في الأطراف، إذ تُصدِّر هذه الدول المواد الخام والسلع الأولية بأسعار منخفضة، بينما تستورد من المركز السلع المصنعة والتكنولوجيا بأسعار مرتفعة. هذا الخلل في شروط التبادل الدولي يعمّق التفاوت بين الطرفين، ويمنع الأطراف من بناء قاعدة إنتاجية صناعية مستقلة. النتيجة هي حلقة مفرغة من التبعية: كلما زاد اندماج الأطراف في السوق العالمية وفق قواعد المركز، ازداد ضعفها واعتمادها عليه.
طوّر أمين هذه الرؤية عبر نقده للنظريات الاقتصادية السائدة، وخصوصًا تلك التي تزعم أن الاندماج في السوق الحرة كفيل بتحقيق التنمية. بالنسبة له، كان هذا الطرح مجرد وهم يخفي وراءه آليات السيطرة الاقتصادية والسياسية. فهو يرى أن النظام العالمي يعيد إنتاج التخلف في الأطراف عبر آليات مالية وتجارية وثقافية، بحيث تُبقى هذه البلدان في موقع المورّد للمواد الخام وسوق لتصريف منتجات المركز. حتى "المساعدات" و"الاستثمارات الأجنبية" غالبًا ما تكون أدوات لإعادة الهيمنة، لا وسائل حقيقية للتنمية.
من هنا، قدّم سمير أمين ما اعتبره شرطًا للتحرر، وهو "فك الارتباط" (Delinking) مع النظام الرأسمالي العالمي، أي إعادة صياغة السياسات الاقتصادية بما يضع الأولويات الوطنية فوق إملاءات المؤسسات المالية الدولية وقوانين السوق الحر. لا يعني ذلك الانعزال الكامل، بل الانخراط الانتقائي الواعي الذي يحمي مصالح الداخل ويعزز القدرات الذاتية. في هذا التصور، تصبح التنمية مشروعًا سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا متكاملًا، هدفه كسر الحلقة المفرغة للتبعية، وبناء اقتصاد متمحور حول الذات وقادر على الصمود أمام تقلبات وضغوط المركز.
فك الارتباط:
طرح سمير أمين مفهوم "فك الارتباط" كخيار استراتيجي أمام دول الجنوب الساعية للتحرر من هيمنة النظام الرأسمالي العالمي. لم يكن يقصد به الانعزال الكامل أو الانسحاب من الاقتصاد الدولي، بل كان يعني إعادة ترتيب أولويات السياسات الاقتصادية والاجتماعية بما يخدم مصالح الداخل أولًا، بعيدًا عن الإملاءات التي تفرضها القوى الكبرى أو المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. في نظره، الاستمرار في الاندماج غير المشروط في السوق العالمية يعني استمرار استنزاف الموارد وإعادة إنتاج التبعية.
رأى أمين أن فك الارتباط يبدأ بامتلاك استراتيجية وطنية للتنمية، تعتمد على تعبئة الموارد المحلية – سواء كانت طبيعية أو بشرية – وتوجيهها لبناء قاعدة إنتاجية متكاملة. ويشمل ذلك تعزيز القطاعات الزراعية والصناعية والخدمية بشكل متوازن، مع التركيز على الصناعات التحويلية والتكنولوجيا المحلية. الهدف هو خلق دورة اقتصادية داخلية قوية، تقلّل الحاجة إلى الاستيراد المفرط، وتحدّ من الاعتماد على القروض الخارجية التي غالبًا ما تكون مشروطة بسياسات تضر بالسيادة الاقتصادية.
كما شدد على أن فك الارتباط لا يمكن أن ينجح إذا ظل محصورًا في البعد الاقتصادي فقط، بل يجب أن يترافق مع تحولات سياسية واجتماعية وثقافية. وهذا يعني بناء نظام سياسي ديمقراطي يعبّر عن مصالح الأغلبية الشعبية، وتبني سياسات تعليمية وثقافية تعزز الوعي الوطني والاستقلال الفكري. إضافةً إلى ذلك، رأى أن التضامن بين دول الجنوب – من خلال تكتلات إقليمية أو تحالفات اقتصادية – أمر حاسم لتقوية الموقف التفاوضي وتقليل الاعتماد على أسواق المركز.
في النهاية، اعتبر سمير أمين أن فك الارتباط ليس مشروعًا قصير المدى، بل عملية طويلة ومعقدة تتطلب إرادة سياسية قوية ورؤية استراتيجية متكاملة. ورغم أن هذا الطريق مليء بالتحديات، فإنه – من وجهة نظره – السبيل الوحيد لتحقيق تنمية مستقلة وحقيقية، تكسر الحلقة المفرغة للتبعية، وتضع الأساس لعالم أكثر توازنًا وعدالة بين الشمال والجنوب.
نقد العولمة النيوليبرالية:
اعتبر سمير أمين أن العولمة النيوليبرالية، التي تسوّق نفسها كمرحلة متقدمة من التكامل الاقتصادي العالمي، ليست إلا صيغة جديدة للاستعمار، ولكن بوسائل غير عسكرية. فبدلًا من الاحتلال المباشر، تُفرض الهيمنة عبر آليات اقتصادية ومالية وإعلامية وثقافية، تُمكّن دول المركز الرأسمالي من التحكم في مسارات التنمية في الأطراف. من خلال هذه العولمة، تُفتح أسواق الجنوب أمام الشركات متعددة الجنسيات، وتُفرض سياسات تحرير التجارة وخصخصة القطاع العام، بما يخدم مصلحة القوى الكبرى على حساب مصالح الشعوب المحلية.
رأى أمين أن الخطاب النيوليبرالي يوهم دول الجنوب بأن الانخراط غير المشروط في السوق العالمية سيقود إلى النمو والازدهار، لكن الواقع أثبت العكس؛ فهذه السياسات عمّقت التفاوتات الاجتماعية، وأضعفت الصناعات المحلية، وزادت الاعتماد على الاستيراد. وبدل أن تؤدي العولمة إلى تقارب في مستويات المعيشة، فإنها وسّعت الفجوة بين الشمال الغني والجنوب الفقير. كما أن التنافسية المزعومة التي تروّج لها المؤسسات الدولية غالبًا ما تكون مختلة، لأن دول الجنوب تدخل السباق وهي مثقلة بالديون وناقصة البنية التحتية، بينما تمتلك دول المركز التفوق التكنولوجي والمالي.
على المستوى الثقافي، أشار أمين إلى أن العولمة النيوليبرالية لا تقتصر على الاقتصاد، بل تسعى إلى فرض نمط ثقافي واستهلاكي عالمي يخدم منطق السوق الرأسمالي. فالإعلام والترفيه والتعليم يتم توجيههم لنشر قيم الفردانية والاستهلاك المفرط، مما يضعف الهويات الوطنية ويُهمّش الثقافات المحلية. بهذا المعنى، تصبح العولمة أداة لتفكيك المجتمعات من الداخل، وتغيير أنماط التفكير والسلوك بما يجعلها أكثر انسجامًا مع مصالح الشركات الكبرى والأسواق العالمية.
انطلاقًا من هذا النقد، دعا أمين إلى بناء نظام عالمي بديل يقوم على تعددية الأقطاب، واحترام تنوع النماذج التنموية، وتمكين الشعوب من التحكم في مواردها واقتصاداتها. واعتبر أن مواجهة العولمة النيوليبرالية تتطلب تحالفات واسعة بين دول الجنوب، وتعزيز التكامل الإقليمي، وتطوير استراتيجيات للتنمية المتمحورة حول الذات، بما يضمن مقاومة الهيمنة، وحماية السيادة الاقتصادية والثقافية في آن واحد.
التنمية المتمحورة حول الذات:
رأى سمير أمين أن أي مشروع تنموي حقيقي في دول الجنوب يجب أن يبدأ من الداخل، لا من الخارج، أي أن يقوم على القدرات الذاتية لكل بلد. فالتنمية المتمحورة حول الذات تعني صياغة سياسات اقتصادية واجتماعية تنطلق من احتياجات المجتمع المحلي وإمكاناته المادية والبشرية، بدلًا من الانجرار وراء نماذج جاهزة تفرضها المؤسسات الدولية أو القوى الكبرى. بهذا المفهوم، تصبح التنمية أداة لتعزيز السيادة الوطنية وبناء اقتصاد يخدم الأغلبية، لا مجرد وسيلة لزيادة مؤشرات النمو في خدمة السوق العالمية.
أكّد أمين أن توظيف الموارد المحلية – من أراضٍ زراعية ومعادن ومياه وطاقات بشرية – يجب أن يتم في إطار استراتيجية وطنية تركز على إنتاج السلع والخدمات الضرورية للمجتمع أولًا. فبدلًا من أن تتحول الدول النامية إلى مجرد مصدر للمواد الخام أو سوق للمنتجات الأجنبية، يجب أن تُوجَّه الاستثمارات إلى بناء قاعدة إنتاجية متكاملة تشمل الزراعة والصناعة والخدمات، بما يحقق الاكتفاء الذاتي النسبي، ويقلّل من الارتهان لاستيراد السلع الأساسية.
كما أوضح أن التنمية المتمحورة حول الذات لا تعني الانغلاق، بل الانفتاح الانتقائي الواعي. يمكن للدولة أن تستفيد من التكنولوجيا والخبرات الخارجية، لكن بشرط أن يكون ذلك في إطار يخدم أهدافها الداخلية ويعزز قدرتها الإنتاجية المستقلة. وهذا يتطلب سياسات تعليمية وتدريبية ترفع مستوى المهارات، وتشجع البحث العلمي والابتكار، وتربط مخرجات التعليم باحتياجات الاقتصاد الوطني، بدلًا من إنتاج قوى عاملة مهيأة فقط لخدمة الشركات الأجنبية.
في النهاية، اعتبر أمين أن هذا النموذج التنموي لا يمكن أن يتحقق من دون إرادة سياسية قوية واستراتيجية طويلة المدى، تتضمن إصلاحات اجتماعية عميقة، مثل تحسين توزيع الدخل، وضمان الخدمات الأساسية للجميع، وإشراك المواطنين في صياغة السياسات. التنمية المتمحورة حول الذات، في رؤيته، ليست مجرد خطة اقتصادية، بل مشروع حضاري يهدف إلى بناء مجتمعات قادرة على تقرير مصيرها، وحماية استقلالها الاقتصادي والثقافي في مواجهة الضغوط العالمية.
البعد الأممي والتحرري:
جمع سمير أمين في مشروعه الفكري بين التحليل الاقتصادي الماركسي من جهة، والدفاع عن قضايا التحرر الوطني من جهة أخرى، ليشكل بذلك رؤية متكاملة تدمج بين النضال الاجتماعي والنضال ضد الهيمنة الاستعمارية الجديدة. فقد كان يرى أن التحرر السياسي لا يكتمل من دون تحرر اقتصادي، وأن إسقاط أشكال الاستعمار المباشر لا يعني نهاية السيطرة، بل غالبًا ما يتبعها نظام اقتصادي عالمي يُبقي دول الجنوب في حالة تبعية للمركز الرأسمالي.
كان لأفريقيا مكانة خاصة في فكر أمين، حيث عمل في مؤسسات بحثية وتنموية في عدد من دولها، وعايش عن قرب التحديات التي تواجه القارة بعد الاستقلال. رأى أن معظم دول أفريقيا وقعت في فخ "التنمية التابعة"، حيث بقيت اقتصاداتها موجهة لتلبية احتياجات السوق العالمية بدلًا من تلبية حاجات شعوبها. لذلك، دعا إلى بناء تحالفات أفريقية على أساس التضامن الاقتصادي والسياسي، وتبني سياسات تنموية متمحورة حول الذات تحرر القارة من قبضة الشركات متعددة الجنسيات والمؤسسات المالية الدولية.
وفي العالم العربي، تبنّى أمين موقفًا نقديًا من الأنظمة التي رفعت شعارات قومية أو اشتراكية لكنها فشلت في تحقيق استقلال اقتصادي حقيقي. اعتبر أن النضال ضد الصهيونية والإمبريالية لا ينفصل عن النضال ضد البنية الاقتصادية التابعة، وأن أي مشروع تحرري في المنطقة يجب أن يواجه في آن واحد السيطرة الخارجية والتفاوتات الاجتماعية الداخلية. كما شدد على أن الوحدة العربية – أو على الأقل التعاون الاقتصادي والسياسي الإقليمي – شرط أساسي لتعزيز القدرة على مواجهة التحديات العالمية.
انطلاقًا من هذا البعد الأممي، كان أمين من الداعمين لبناء نظام عالمي متعدد الأقطاب، يتيح لدول الجنوب أن تكون فاعلًا مستقلًا لا مجرد تابع للمركز. وقد شارك في تأسيس وتطوير عدد من الشبكات والحركات العالمية المناهضة للعولمة النيوليبرالية، مؤكدًا أن معركة التحرر في الجنوب هي جزء من معركة أوسع من أجل العدالة الاجتماعية والاقتصادية على مستوى العالم. بهذه الرؤية، ربط بين قضايا الفقراء والمهمشين في كل مكان، وجعل من فكره جسرًا بين النضال المحلي والقضية الأممية.
أبرز مؤلفاته
● التراكم على الصعيد العالمي (1970) – دراسة كلاسيكية في الاقتصاد السياسي.
● التنمية اللامتكافئة (1973).
● الإمبريالية المعاصرة (1975).
● نقد نظرية التبعية.
● فك الارتباط.
● في مواجهة أزمة عصرنا.
● أفريقيا: من الاستقلال إلى التبعية.
إرثه الفكري
ظل سمير أمين مرجعًا في نقد الرأسمالية العالمية، ليس فقط في الأوساط الأكاديمية، بل أيضًا بين الحركات الاجتماعية والسياسية المناهضة للعولمة. وكان يؤكد دائمًا على الربط بين النضال الاجتماعي والنضال الوطني والتحرر الثقافي.