تطورت استراتيجية الرئيس دونالد ترامب التجارية فى ولايته الثانية إلى حملة شرسة لانتزاع تعهدات استثمارية واسعة النطاق من شركاء أمريكا التجاريين، مستغلاً التهديدات بالرسوم الجمركية كورقة مساومة رئيسية. وفى خطوة تُذكّر بأسلوبه التفاوضى "فن إبرام الصفقات"، يُطالب ترامب الدول باستثمار مليارات الدولارات فى الاقتصاد الأمريكى وإلا ستُواجه رسوماً جمركية أعلى بكثير.
إن نهج الإدارة، الذى تجلى خلال سلسلة من الصفقات التجارية التى أُبرمت مؤخراً على عجل قبل الموعد النهائى الذى كان محدداً فى الأول من أغسطس، يُحوّل مفاوضات التجارة من مجرد محادثات للوصول إلى الأسواق إلى مطالبات بالغة الأهمية لتدفقات رأس المال الأجنبي.
أعلنت كل من كوريا الجنوبية واليابان والاتحاد الأوروبى عن التزامات علنية بتحويل مبالغ طائلة إلى الولايات المتحدة كوسيلة لتجنب فرض رسوم جمركية أعلى. وشهدت كوريا الجنوبية، التى واجهت فى البداية رسومًا جمركية بنسبة ٢٥٪، انخفاضًا فى معدلها إلى ١٥٪ بعد أن تعهدت باستثمارات أمريكية بقيمة ٣٥٠ مليار دولار، ووافقت على شراء غاز طبيعى مسال بقيمة ١٠٠ مليار دولار.
وبالمثل، أعلنت اليابان عن صندوق استثمارى أمريكى بقيمة ٥٥٠ مليار دولار، وأبدى الاتحاد الأوروبى نيته فى استثمار ما لا يقل عن ٦٠٠ مليار دولار فى الشركات. وقد روّج ترامب لهذه الأرقام كدليل على نجاح مفاوضاته، وإشارة إلى فائدة كبيرة للعمال الأمريكيين.
شكوك حول التزامات غامضة
ومع ذلك، يثير خبراء التجارة والمسؤولون الأجانب تساؤلات حول طبيعة هذه الوعود الاستثمارية وقابليتها للتنفيذ. ووصف سكوت لينسيكوم من معهد كاتو هذا التكتيك بأنه "ابتزاز عالمي"، مجادلًا بأن الإدارة تستخدم تهديدات الرسوم الجمركية لإجبار الشركاء التجاريين على الامتثال. أعرب مايكل فرومان، الممثل التجارى الأمريكى السابق، عن مخاوف مماثلة، مشيرًا إلى "غموض" العديد من الالتزامات. وتساءل فرومان: "هل هى قابلة للتنفيذ؟ إذا لم تُقدم مبلغًا معينًا من الاستثمار خلال فترة زمنية محددة، فهل تُعاد الرسوم الجمركية؟"، مؤكدًا أن العديد من التعهدات تفتقر إلى آليات رسمية أو جداول زمنية واضحة.
يكشف التدقيق فى الأرقام المعلنة عن غموض كبير. على سبيل المثال، من المتوقع أن يكون جزء كبير من التزام كوريا الجنوبية البالغ ٣٥٠ مليار دولار عبارة عن قروض وضمانات بدلًا من استثمارات مباشرة، وقد أعرب المسؤولون عن حيرة إزاء ادعاء ترامب بأن "٩٠٪ من الأرباح" ستعود بالنفع على الأمريكيين.
فى الوقت نفسه، لم يُصرّح الاتحاد الأوروبى إلا بأن شركاته "مهتمة" باستثمار ما لا يقل عن ٦٠٠ مليار دولار فى الولايات المتحدة، بينما تعتمد صناديق اليابان أيضًا بشكل كبير على القروض. هذه الأرقام الاستثمارية تُقزّم الإنفاق الأجنبى الفعلى فى الولايات المتحدة العام الماضي، والذى بلغ ١٥١ مليار دولار فقط، مما يُلقى بظلال من الشك على جدواها.
خبراء يُحذّرون من المخاطر
يُحذّر خبراء التجارة والاقتصاد من أن إجبار الدول على الاستثمار تحت التهديد قد يُلحق الضرر فى نهاية المطاف بسمعة الولايات المتحدة العريقة كوجهة جاذبة وطوعية لرأس المال العالمي. وحذّر آرون بارتنيك، المسؤول السابق فى البيت الأبيض، من أنه إذا تصرفت أمريكا كـ"سوق ناشئة لا تستطيع جذب رأس المال بمزاياها"، فقد تواجه شروطًا أكثر صرامة وتكاليف أعلى من شركائها التجاريين فى المستقبل.
وفقًا لدانيال أميس من كلية كولومبيا للأعمال، فإن استراتيجية ترامب تستعير مباشرةً من خبرته كمطوّر عقاري: زعزعة استقرار المنافسين، وتقديم أرقام ضخمة، وفرض السيطرة فى كل صفقة. أشار أميس إلى أن "دونالد ترامب راوٍ موهوب"، مضيفًا أن المفاوضين الأجانب قد يستغلون "غرور ترامب" بالإعلان عن وعود استثمارية ضخمة، وإن كانت جوفاء، لإشباع حاجته إلى تحقيق انتصارات علنية.
على الرغم من التشكيك ونقص التفاصيل، يواصل الرئيس ترامب ادعاء تحقيق مكاسب ضخمة للاقتصاد الأمريكي، متباهيًا بانتظام بالتزامات استثمارية جديدة بقيمة "أكثر من ١٠ تريليونات دولار" من الحكومات والشركات الأجنبية. وبينما لا تزال العواقب الاقتصادية الكاملة لهذا النهج غير واضحة، يتفق الخبراء على أن استراتيجية ترامب القائمة على "التعهد أو التعريفات الجمركية" تُمثل تحولًا جذريًا فى السياسة التجارية الأمريكية، وهو تحول ينطوى على مخاطر غير مؤكدة على النظام الاقتصادى العالمي.
