تسعى إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948 إلى تحقيق جملة من الأهداف الاستراتيجية في الشرق الأوسط، تشكل بمجموعها رؤية متكاملة تهدف إلى ضمان بقاء الكيان الصهيوني، وتكريس تفوقه العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي على محيطه العربي والإسلامي، ولم تأتِ هذه الأهداف عفوية، بل تأسست ضمن سياق فكري وتاريخي راسخ في العقيدة الصهيونية، مدعوما بتوجهات واضحة لدى النخب الحاكمة في تل أبيب، وبدعم غير محدود من القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
أولى هذه الأهداف وأكثرها رسوخاً هو ضمان التفوق العسكري المطلق على كل الدول المحيطة، وقد حرصت إسرائيل على امتلاك أحدث الأسلحة الغربية، وتطوير صناعاتها العسكرية المحلية، وتأمين تفوق تكنولوجي واستخباراتي دائم على جيرانها، فهي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تمتلك أسلحة نووية، رغم عدم إعلانها رسميًا، مستفيدة من صمت المجتمع الدولي وتواطئه، كما اعتمدت على تنفيذ ضربات استباقية في كل من سوريا ولبنان وغزة، لإحباط أي تهديد محتمل قبل أن يتطور، مما يكرس مفهوم "الحرب الوقائية" الذي يعد أحد أركان عقيدتها العسكرية، كذلك لا يمكن تجاهل الدعم الأمريكي الهائل، سواء في صورة مساعدات مباشرة أو عبر صفقات تسليح طويلة الأمد، وهو ما يضمن لإسرائيل بقاءها كقوة مسلحة في الإقليم.
محاولات بث الفوضى
أما الهدف الثاني فيتمثل في العمل المنهجي على إضعاف الدول العربية المحيطة وتفتيتها، فإسرائيل تدرك أن وجود كيانات عربية قوية وموحدة يشكل تهديداً وجودياً لها، لذلك دعمت – بصورة مباشرة أو غير مباشرة – حالة الفوضى والصراعات الداخلية في عدد من الدول العربية، كما حدث في العراق وسوريا واليمن وليبيا، وقد ظهر هذا التوجه بوضوح في ما يعرف بـ"خطة ينون" التي وضعت في ثمانينيات القرن الماضي، ودعت صراحة إلى تقسيم الدول العربية إلى دويلات طائفية وعرقية، وبالفعل، ساهمت التحولات الإقليمية الكبرى خلال العقدين الماضيين في تفكيك بنى الدولة الوطنية في أكثر من بلد عربي، وهو ما يصب في صميم المصلحة الاستراتيجية الإسرائيلية.
في سياق موازٍ، تسعى إسرائيل إلى تطبيع علاقاتها مع أكبر عدد ممكن من الدول العربية والإسلامية، بغرض كسر العزلة السياسية وتكريس حضورها الإقليمي كلاعب طبيعي في المنطقة، وجاءت اتفاقيات أبراهام في 2020 لتفتح الباب أمام تطبيع علني، فضلاً عن علاقات سرية أو غير رسمية مع دول أخرى، ويعد هذا التطبيع أحد أعمدة الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة، التي تهدف إلى خلق تحالفات أمنية واقتصادية في مواجهة إيران من جهة، وتقويض مركزية القضية الفلسطينية من جهة أخرى، كما تحاول إسرائيل التغلغل في إفريقيا، خاصة في دول حوض النيل والقرن الإفريقي، حيث تعمل على إقامة علاقات عسكرية واستخباراتية وتجارية مع إثيوبيا وأوغندا وكينيا وجنوب السودان، لتطويق الأمة العربية من ناحية استراتيجية.
السيطرة على الموارد الاقتصادية
ولا تتوقف الأهداف الإسرائيلية عند البعد الأمني والسياسي فحسب، بل تمتد إلى السيطرة على الموارد الاقتصادية في المنطقة، خصوصًا الغاز الطبيعي والمياه، فبعد اكتشاف حقول غاز ضخمة في شرق المتوسط مثل "ليفياثان" و"تمار"، تحولت إسرائيل إلى مصدر للطاقة، وبدأت في تصدير الغاز إلى أوروبا عبر ترتيبات إقليمية مع اليونان وقبرص، كما تحاول فرض نفسها كمركز إقليمي لتجارة الغاز، ما يمنحها أداة ضغط جديدة في موازين القوى، وفي الوقت نفسه، تعمل إسرائيل على امتلاك تكنولوجيا الزراعة والمياه المتطورة، وتعرضها على دول الجوار كوسيلة لاختراق الأسواق والهيمنة الاقتصادية الناعمة.
ومن أبرز الأهداف التي تسعى إسرائيل لتحقيقها أيضا، تشويه الصورة الذهنية لخصومها أمام العالم، وإعادة صياغة الرواية التاريخية للصراع، فهي تبذل جهدًا ضخما في الإعلام والدبلوماسية الدولية لتصوير نفسها كضحية للإرهاب، وتقديم الفلسطينيين كطرف متشدد يرفض السلام، وتحاول دوماً تحويل الأنظار عن جوهر الصراع باعتباره صراعاً على الأرض وحق العودة والكرامة، إلى كونه مجرد خلافات أمنية، وفي هذا السياق، تنشط الدعاية الإسرائيلية في إنتاج خطاب ثقافي وديني مزيف، يوظف الرموز التوراتية لتبرير احتلالها للقدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية، بل وتسعى أحيانًا إلى استغلال رموز دينية إسلامية للتطبيع مع الشعوب، كما ظهر في زيارات شخصيات دينية تزعم تمثيل المسلمين في أوروبا.
في الداخل، تواصل إسرائيل العمل على تغيير الواقع الديمجرافي والجغرافي، من خلال تهويد القدس، وتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية، وفرض الحصار على قطاع غزة، ورفض عودة اللاجئين الفلسطينيين، وهي بذلك تحاول تصفية القضية الفلسطينية عبر خلق واقع جديد على الأرض لا يمكن التراجع عنه، مستفيدة من الانقسام الفلسطيني، وغياب الإرادة الدولية للضغط الحقيقي على الاحتلال، وتهدف هذه السياسات إلى تقويض أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية ذات سيادة، وتحويل الفلسطينيين إلى مجرد سكان تحت الإدارة الأمنية الإسرائيلية، دون أي حقوق سياسية أو وطنية.
تحديات حقيقية للمشروع الصهيونى
إن مجمل هذه الأهداف تشكل رؤية استراتيجية متكاملة، لا تستند إلى رد الفعل بل إلى تخطيط بعيد المدى، ينظر إلى الشرق الأوسط كمجال حيوي للنفوذ الإسرائيلي، ومع ذلك، يواجه هذا المشروع تحديات حقيقية، تتمثل في صمود الشعب الفلسطينى، وتنامي الوعي العالمي بعدالة القضية الفلسطينية، وتراجع الدعم الغربي بفعل الأزمات الداخلية في أوروبا وأمريكا، فضلاً عن تصاعد محور الرفض الإقليمي، لذلك فإن نجاح المشروع الإسرائيلي ليس قدرًا حتميًا، بل مرهون بتوازن القوى، ويستدعي يقظة عربية شاملة، وإرادة سياسية قادرة على بناء مشروع استراتيجي مضاد يعيد التوازن للمنطقة، ويحفظ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وامتلاك سيادتها على أوطانها.
وفي خضم هذا المشهد المليء بالتحديات والصراعات، تبقى مصر الدولة الوحيدة في الإقليم التي تقف بثبات وقوة في وجه هذه الأهداف الإسرائيلية، فعلى الرغم من معاهدة السلام، لم تسمح مصر يومًا لإسرائيل بالتمدد على حساب الأمن القومي العربي أو المساس بثوابت القضية الفلسطينية، وهي تدرك تمامًا أن المشروع الصهيوني يتجاوز حدود فلسطين إلى تهديد الأمن القومي العربي بأكمله، وفي القلب منه الأمن القومي المصري، وقد أثبتت القاهرة عبر عقود، بفضل قوة جيشها الوطني الصلب ومؤسساتها الأمنية المحترفة، أنها حصن منيع في وجه المخططات التي تستهدف تفكيك المنطقة أو العبث بوحدتها، كما أن الدبلوماسية المصرية ظلت فاعلة، توازن بين الواقعية السياسية والتمسك بالثوابت، وتحافظ على دورها القيادي في كل الملفات الحساسة، من القضية الفلسطينية إلى أمن البحر الأحمر وليبيا والسودان.. إن مصر، بتاريخها وموقعها ووعي شعبها، قادرة على أن تكون صمام أمان للمنطقة كلها، وقوة توازن تفرض الاحترام والرهبة، وتعيد صياغة المعادلات الإقليمية بما يضمن الاستقرار والعدل والسلام العادل، لا السلام المزيف الذي تروج له إسرائيل.