في أروقة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وفي دفاتر قادة الجيش ورؤساء الحكومة، وفي افتتاحيات الصحف العبرية وأبحاث المحللين، لم يكن اسم جمال عبد الناصر مجرد عنوان إخباري عابر. بل كان الكابوس الذي أيقظ جنرالات تل أبيب لسنوات، واللغز الذي حيّر جهاز الموساد، والزعيم الذي رأته إسرائيل أكثر من مجرد رئيس لدولة تواجهها عبر الحدود.
كان ناصر مشروعًا يتجاوز حدود مصر، يلوّح بخطاب العروبة، ويتحدّى شرعية وجود إسرائيل نفسها، لا عبر البنادق فقط، بل عبر الأفكار، والمنابر، والكاريزما الصادمة لرجلٍ وحّد الجماهير وجعل من تل أبيب تشعر بأن الخطر قادم من قلب القاهرة.
لم تكن إسرائيل تخشى جيوشه فقط، بل تخشى صورته، ولم تكره شخصه فقط، بل خافت من ظله، وفي لحظات كثيرة، حاولت فهمه أكثر مما حاولت قتاله.
هذا التقرير يفتح "تحيا مصر" الأرشيف الإسرائيلي، يحلل مواقف قادته وكتّابه، ويعيد قراءة عبد الناصر من حيث لم يُقرأ من قبل، من داخل عين عدوه الأول.
عبد الناصر في عقل الدولة العبرية.. عدو لا يُستَهان به
في أولى سنوات حكمه، وقبل أن تتحول أزمة السويس إلى معركة إقليمية، بدأت المخابرات الإسرائيلية تراقب تحركات ناصر بشغف المندهش والقلق معًا، لم يكن شابًا عادياً صعد على ظهر الدبابات، بل كان في نظرهم قائداً يحمل مشروعًا عميقًا لتغيير ميزان القوة في الشرق الأوسط. التقييمات الاستخباراتية التي تسربت لاحقًا تصفه بأنه "عدو استراتيجي يتمتع بوعي سياسي متقد”، وفقًا لوثائق نشرها "مركز بيجن السادات للدراسات الاستراتيجية".
أما بن جوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، فكان يرى فيه خصمًا خطيرًا، ولم يكن يستخف به يومًا، في مذكراته، كتب أن ناصر "يؤمن بما يقول، وهذه أخطر صفة في قائد عربي، لأنه حين يؤمن، سيقاتل، وحين يقاتل، سيتبعه الملايين.” وهكذا وُلدت في إسرائيل نظرية "التهديد الناصري"، التي لم تكن تقوم على عدد الدبابات، بل على عمق الحلم الذي يحمله هذا الزعيم في خطاباته الثورية.
زعيم بحجم أمة.. صورة ناصر في الإعلام الإسرائيلي
لم تكن الصحافة الإسرائيلية بعيدة عن هذا الهوس السياسي. جريدة "هآرتس"، المعروفة بتحليلاتها الهادئة، نشرت عام 1960 تقريرًا عنوانه: "عبد الناصر… رجل الشرق الأوسط الجديد"، ووصفت فيه الزعيم المصري بأنه “يملك من التأثير ما لا تملكه سبع جيوش عربية.”
أما صحيفة "معاريف"، فكانت تميل إلى اللغة التحريضية، وتكتب عنه كأنه يملك سحرًا خاصًا في تحريك الشارع العربي. كتّاب مثل أرييه أفيـنيري رأوا فيه "هتلر عربي"، ليس بسبب عدائه لليهود فقط، كما زعموا، بل بسبب قدرته على استغلال الخطاب الجماهيري لصنع حراك شعبي عابر للحدود.
في المقابل، نشرت "يديعوت أحرونوت" مقالات أكثر تعقلاً، تنقل آراء محللين يرون أن ناصر "لا يريد إبادة إسرائيل، بل يريد قيادتها إلى حافة التفكك الذاتي عبر عزلة سياسية وتطويق نفسي ودعائي."، وكان الإعلام الإسرائيلي يدرك أن ناصر، حتى عندما يخسر ميدانياً، يربح معنويًا، وهذه معركة لا تعرفها الجيوش بقدر ما يخشاها السياسيون.
حرب السويس و67.. من الذعر إلى الرغبة في فهم الرجل
حين أمّم عبد الناصر قناة السويس عام 1956، لم يكن القرار صادمًا بسبب ما فعله، بل بسبب كيف فعله، ففي إسرائيل، كانت المفاجأة أشبه بصفعة استراتيجية، رأوا فيها إعلاناً صريحاً بأن ناصر لا يخاف القوى الكبرى، وأنه قادر على تغيير قواعد اللعبة.
اعترف الجنرالات الإسرائيليون الذين شاركوا في العدوان الثلاثي لاحقًا أن الهدف لم يكن فقط ضرب مصر، بل كسر "هالة ناصر" أمام الجماهير العربية، ولكن حتى بعد حرب يونيو 1967، رغم الهزيمة المدوية للجيوش العربية، ظل ناصر يحتل مساحة خاصة في العقل الإسرائيلي.
قال إسحاق رابين، قائد الأركان آنذاك، لاحقًا في لقاء مع "يديعوت": “ناصر لم يكن يريد الحرب… لكنه لم يكن يعرف كيف يتراجع.” هذا التصريح يعكس أحد أعمق تناقضات العلاقة: إسرائيل لا تثق به، لكنها لا تنفي احترامها لقدراته.
ناصر بين الموساد والدبلوماسية السرّية.. حوار لم يُكتَب له النجاح
ما لا يعرفه كثيرون أن إسرائيل حاولت مرارًا فتح قنوات سرية مع عبد الناصر، خاصة بعد نكسة 67، وتكشف الوثائق التي نشرها الباحث الإسرائيلي إيدو ياهايل تكشف أن وزير الخارجية الإسرائيلي أبا إيبان كان يسعى لاستغلال وسطاء أمريكيين لفتح حوار غير مباشر مع القاهرة، لكن كل المحاولات اصطدمت بجدار الرفض الناصري.
ناصر كان يدرك أنه في نظر الجماهير رمز للمواجهة، وأي تواصل سري مع تل أبيب سيُفجّر الرأي العام العربي ضده، ومع ذلك، داخل أروقة الموساد، كانت هناك محاولة لفهم الرجل أكثر مما كانت هناك محاولة لاختراقه. التقارير الاستخباراتية تصفه بأنه "قومي عقلاني، يزن خطواته بذكاء، لكنه غير قابل للاحتواء الخارجي". ولذلك، فضّلت إسرائيل أن تواجهه في العلن، لا في الظل، لأنه في الظل، يصعب كسره.
من العدو إلى الأيقونة.. كيف ترى إسرائيل ناصر بعد موته؟
في السابع والعشرين من سبتمبر 1970، وبينما كانت الجماهير تبكي زعيمها، كانت إسرائيل تقف أمام لحظة مراجعة، مات عبد الناصر، لكن الخطر لم يمت، وفي تعليقات كبار القادة العسكريين، ظهر ما يشبه الاعتراف بأن موته ترك فراغًا لم يملأه أحد.
قالت جولدا مائير، التي كانت من أكثر من واجهه بصرامة، في جلسة حكومية مغلقة: "قد نختلف مع ناصر، وقد نقاتله، لكننا لم نجد بعد زعيمًا يعرف كيف يتعامل مع خصومه مثله."
أما الصحف الإسرائيلية، فقد انقسمت بين من رأى في وفاته "نهاية حقبة التهديد الناصري"، ومن رأى أنه برحيله "دخل التاريخ كأقوى رجل واجه المشروع الصهيوني منذ قيامه"، ولعل المفارقة أن كثيرًا من المؤرخين الإسرائيليين الجدد عادوا في التسعينات ليكتبوا عنه ليس كعدو، بل كجزء من معادلة الفهم الإقليمي، رجلٌ صنع التاريخ من موقع العداء، لكنه أجبر الجميع على احترامه.
---