أخبار عاجلة

السندات الزرقاء أداة تمويلية لاستدامة الحياة البحرية (مقال)

السندات الزرقاء أداة تمويلية لاستدامة الحياة البحرية (مقال)
السندات الزرقاء أداة تمويلية لاستدامة الحياة البحرية (مقال)

تُعَد السندات الزرقاء محورًا أساسيًا في الجهود العالمية الهادفة إلى تمويل المشروعات التي تُسهم في حماية الثروات المائية والبحرية واستدامتها. وفي زيادة أزمة التمويل التي تواجهها الدول والمؤسسات غير الحكومية عند محاولة التحول نحو اقتصاد مستدام.

برزت السندات الزرقاء بصفتها آلية مبتكرة تتيح توفير سيولة مالية طويلة الأجل مخصصة للمشروعات ذات الصلة بالمناطق البحرية، والمائية العذبة، والحياة البحرية.

وتتزامن أهمية السندات الزرقاء مع تزايد المخاطر البيئية والاقتصادية الناجمة عن الإفراط في الاستغلال السمكي والتلوث البحري وارتفاع مستوى مياه البحار. ولذا، اكتسبت هذه الأداة المالية اهتمامًا واسعًا من الحكومات وصناديق الاستثمار والبنوك الدولية والمؤسسات المانحة وشركات القطاع الخاص.

في هذا المقال، نُسلِّط الضوء على تعريف السندات الزرقاء، ونتتبع نشأتها وتطورها، ثم نشرح آلية إصدارها واستعمالات إيراداتها، إلى جانب استعراض المزايا والمخاطر المرتبطة بها ورصد الآفاق المستقبلية والتحديات القائمة أمام تعميم هذه الأداة المالية والحفاظ على مصداقيتها وتأثيرها البيئي الإيجابي.

تعريف السندات الزرقاء

تُعرّف السندات الزرقاء (Blue Bonds) بأنها أوراق مالية لدين طويلة الأجل تصدرها الحكومات أو المؤسسات أو الشركات بغرض جمع تمويل لمشروعات تستهدف حماية وإدارة الموارد المائية والبحرية بشكل مستدام.

وهي مستوحاة من مفهوم السندات الخضراء (Green Bonds) التي تُركّز على تمويل المشروعات البيئية العامة، لكن تركيزها ينصب بشكل خاص على القضايا المتعلقة بالبحار والمحيطات والأنهار والبحيرات والمياه الجوفية والحياة البحرية.

تتميز السندات الزرقاء بارتباطها الوثيق بأهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، ولا سيما الهدف الـ14 المتعلق بالحفاظ على المحيطات والموارد البحرية واستعمالها على نحو مستدام.

ويعد هذا الارتباط معيارًا لتصنيف المشروعات المؤهلة للحصول على التمويل الأزرق؛ بما يضمن تخصيص الموارد للأنشطة التي تحقق فوائد بيئية واجتماعية واقتصادية ملموسة.

تلوث المحيطات بالبلاستيك
تلوث المحيطات بالبلاستيك - الصورة من كلين هب بلوغز

يتضمن تعريف السندات الزرقاء عدة عناصر رئيسة:

  1. الجهة المصدرة: حكومة وطنية أو جهة إقليمية أو شركة خاصة أو مؤسسة دولية.
  2. الاستعمال المقصود للعائدات: مشروعات حماية البحار، مكافحة التلوث البلاستيكي، الاستزراع المائي المستدام، صيانة السدود والسواحل، تحسين جودة المياه.
  3. معايير التقارير والشفافية: آليات قياس الأثر البيئي والاجتماعي والإبلاغ عنها دوريًا.
  4. التصنيف والاعتماد: جهات مستقلة تمنح شهادة للأهلية وفقًا للمبادئ التوجيهية للسندات الزرقاء.

نشأة السندات الزرقاء وتطورها

بدأت فكرة السندات الزرقاء تأخذ شكلها العملي أول مرة في عام 2018 عندما أصدرت جمهورية سيشل أول سندات زرقاء حكومية بقيمة 15 مليون دولار، واستُعملت عائداتها لإعادة هيكلة ديون السيشل البحرية وحماية مصائد الأسماك والحياة البحرية وتنمية المجتمعات الساحلية. ومنذ ذلك الحين ارتفع الاهتمام بهذا النوع من الأوراق المالية على الصعيدين الإقليمي والعالمي.

تُعَد تجربة سيشل نقطة تحول لظهور مبادرات مشابهة في دول أخرى، بدأت الجهات التنظيمية والمؤسسات المالية في وضع الأطر والمبادئ التوجيهية لضبط معايير السندات الزرقاء وضمان الشفافية. من أبرز هذه المبادئ:

- مبادئ السندات الزرقاء الصادرة عن مجلس السندات المناخية (ICMA).

- إرشادات البنك الدولي بشأن التمويل الأزرق.

- المبادرة المشتركة بين عدد من البنوك الإقليمية والدولية لتطوير تقييمات الاستدامة البحرية.

على مدار السنوات القليلة الماضية، شهدت السوق إقبالًا متزايدًا من المستثمرين الذين باتوا يعيرون أهمية كبيرة للعائدات البيئية والاجتماعية إلى جانب العائد المالي. كما برز دور الوكالات الدولية ومنظمات المجتمع المدني في مراقبة الأداء والإبلاغ عن المشروعات الممولة عبر السندات الزرقاء.

آلية إصدار السندات الزرقاء

تشبه عملية إصدار السندات الزرقاء في هيكلها عملية إصدار السندات التقليدية، لكنها تضيف متطلبات تشغيلية وشفافية تتعلق بالهدف البيئي:

  1. تحديد المشروعات المؤهلة: تُبلِّغ الجهة المصدرة المستشارين الماليين والبيئيين بنطاق المشروعات التي تستوفي الشروط، مثل حماية السواحل، وترميم الشعاب المرجانية، وتحسين إدارة الصيد.
  2. إعداد نشرة الإصدار: تتضمّن تفاصيل السند: القيمة الإجمالية، مدة الاستحقاق، سعر الفائدة الدوري، طريقة الصرف، الأطر البيئية.
  3. الحصول على تصنيف بيئي مستقل: تلجأ الجهة المصدرة إلى الخبراء البيئة المستقلين لمنح شهادة بأن المشروعات الممولة مطابقة لمعايير السندات الزرقاء.
  4. السوق والعرض: تُطرح السندات في الأسواق المحلية أو الدولية عبر بنوك استثمارية، مع استهداف المستثمرين والصناديق المتخصصة في الاستدامة.
  5. تخصيص العوائد: تُودع إيرادات الإصدار في حساب منفصل، تُستَعمل حصرًا لتمويل المشروعات المعتمدة.
  6. المتابعة والتقرير الدوري: تُنشَر تقارير نصف سنوية أو سنوية توضح طريقة استعمال العوائد، وحالة المشروعات، والمؤشرات البيئية والاجتماعية (مثل كمية النفايات البحرية التي أُزِيلت، أعداد الأنواع البحرية التي جرت حمايتها).

تعزز آلية الإدارة المنفصلة للحسابات والمراجعة المستقلة ومشاركة أصحاب المصلحة من مصداقية السندات الزرقاء وتجذب مزيدًا من دعم المستثمرين الراغبين في دمج معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة المؤسسات (ESG) في محافظهم الاستثمارية.

النفايات تغطي أحد الأنهار ويتطلب ذلك إعادة تدوير النفايات البلاستيكية
النفايات تغطي أحد الأنهار - الصورة من المنتدى الاقتصادي العالمي

استعمالات إيرادات السندات الزرقاء

تُوجه عائدات السندات الزرقاء إلى مجموعة واسعة من الأنشطة والمشروعات التي تندرج تحت الحفاظ على الموارد المائية والبحرية وإدارتها بطرق مستدامة، ومن أبرزها:

  1. ترميم النظم الإيكولوجية البحرية: هياكل حماية الشعاب المرجانية، وزراعة الأعشاب البحرية، وإعادة تأهيل الأراضي الرطبة الساحلية.
  2. مكافحة التلوث البحري: مشروعات جمع النفايات البلاستيكية من المحيطات، وتصميم محطات تنقية مياه الصرف الصحي الساحلية.
  3. إدارة مصائد الأسماك المستدامة: دعم تقنيات الصيد الصديقة للبيئة، وإنشاء مناطق محمية لتكاثر الكائنات البحرية، وبرامج تتبع المصادر السمكية.
  4. تحسين البنية التحتية للمياه العذبة: بناء سدود لاستصلاح الأراضي الزراعية، وخزانات لزيادة توفر المياه خلال مواسم الجفاف.
  5. تعزيز القدرات المحلية: تمويل التدريب والتوعية للمجتمعات الساحلية حول الممارسات البيئية المستدامة، وتطوير نشاطات سياحية بيئية مستندة تهدف لحماية البيئة البحرية.

تتنوع استعمالات العوائد بين الحكومات الوطنية التي تستهدف مشروعات بنية تحتية ضخمة، والشركات الخاصة التي تدير شبكات الري أو الزراعة المائية، والمنظمات غير الحكومية التي تنفذ مبادرات مجتمعية. والهدف الموحد هو خلق توازن بين التنمية الاقتصادية والحفاظ على الثروات المائية لضمان استدامتها للأجيال القادمة.

مزايا السندات الزرقاء ومخاطرها

المزايا

- تمويل طويل الأجل: يتيح للحكومات والمؤسسات توفير سيولة مستدامة للمشروعات التي قد تحتاج إلى سنوات لتظهر آثارها البيئية والاقتصادية.

- مصداقية وشفافية: تضمن التصنيفات والتقارير المستقلة الالتزام بالأهداف البيئية؛ ما يعزز ثقة المستثمرين.

- تنويع مصادر التمويل: تفتح نافذة أمام المستثمرين وصناديق الاستدامة للانخراط في المشروعات الزرقاء.

- تعزيز الالتزام البيئي: تدفع الجهات المصدرة إلى وضع أطر وسياسات داخلية لإدارة الموارد البحرية يُعترف بها دوليًا.

- آثار اجتماعية إيجابية: تُسهِم في تحسين معيشة المجتمعات الساحلية عبر توفير وظائف خضراء وتعزيز الأمن الغذائي.

المخاطر

- خطر الغسل الأخضر (Greenwashing): احتمال استعمال تسمية "زرقاء" دون تطبيق فعلي للمعايير الصارمة.

- تقلبات الأسواق: يمكن أن تتأثر قيمة السندات بتقلبات أسعار الفائدة أو المخاطر السيادية.

- تقييم الأثر البيئي: صعوبة قياس النتائج الملموسة للمشروعات البحرية ومقارنتها بالمعايير المرجعية.

- المخاطر الطبيعية: المشروعات الساحلية والبحرية عرضة لظواهر مناخية متطرفة كالزلازل البحرية أو ارتفاع منسوب المياه.

- قلة الخبرات التقنية: نقص الخبراء القادرين على تصميم وتقييم المشروعات البحرية المستدامة في بعض الدول النامية.

آفاق المستقبل وتحدياته

يُتوقع أن يستمر نمو سوق السندات الزرقاء مع زيادة وعي المستثمرين بأهمية حماية البيئة البحرية والموارد المائية. ومن العوامل الدافعة:

- تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص والمؤسسات المالية الدولية.

- تطوير أطر تنظيمية وطنية وإقليمية تفرض معايير واضحة لاستعمال العوائد والتقارير.

- ابتكار منتجات مالية هجينة تجمع بين السندات الزرقاء وخيارات حماية آثار المناخ (Climate Resilience).

- توسيع نطاق الإصدارات لتشمل الشركات الصغيرة والمتوسطة في الاقتصادات الساحلية النامية.

ومع ذلك، تواجه السندات الزرقاء تحديات كبيرة؛ أبرزها: ضمان الشفافية الحقيقية وتلافي ممارسات الغسل الأخضر، إضافة إلى الحاجة لبناء قدرات فنية وتطوير منشآت قياس الأثر البيئي الفاعلة. كما يجب توحيد مقاييس التقييم عبر مختلف المناطق لتسهيل مقارنة الأداء وجذب المستثمرين الدوليين.

تمثل السندات الزرقاء أداة مالية مبتكرة في مسار التمويل المستدام؛ إذ تتيح توفير موارد كبيرة لدعم المشروعات التي تحافظ على البيئة البحرية والموارد المائية العذبة. ويظهر من خلال التجارب التي عدت دول أن إمكان الاستفادة قائمة، شريطة توفير الأطر التنظيمية والشفافية والتقييم الموضوعي للأثر البيئي.

النفايات البلاستيكية
النفايات البلاستيكية في المحيطات - الصورة من موقع برنامج الأمم المتحدة للبيئة

إن النجاح المستقبلي للسندات الزرقاء يعتمد على التزام الجهات المصدرة والمستثمِرة بمعايير الاستدامة، وتوظيف أحدث الأساليب العلمية والتقنية في إدارة المشروعات الممولة، وبناء شراكات قوية بين الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني. كما يتطلب تعزيز التعاون الدولي لوضع معايير موحدة وتسهيل انتقال المعرفة والخبرات.

إذا ما جرى تدارك المخاطر وتبنّي الشفافية الفعلية؛ فبإمكان السندات الزرقاء أن تكون رافدًا مهمًا للجهود العالمية في حماية البحار والمحيطات وضمان استدامة الموارد المائية للأجيال القادمة.

* الدكتورة هبة محمد إمام - خبيرة دولية واستشارية بيئية مصرية.

موضوعات متعلقة..

اقرأ أيضًا..

إشترك في النشرة البريدية ليصلك أهم أخبار الطاقة.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق بمشاركة الرئيس السيسى.. انطلاق اجتماع القمة التنسيقى للاتحاد الأفريقى
التالى عاجل| محافظ الغربية مهنئا 3 طالبات أوائل بالدبلومات الفنية: "تاج رأس المحافظة"