كيفية تعامل الأولاد مع أبيهم الذي يهين أمهم، من الأسئلة التي تشغل الكثير من الشباب في وظل وجود خلافات بين الأم والأب، وتطاول الأب على الأم.
وورد سؤال إلى دار الإفتاء يقول صاحبه: ما هي كيفية تعامل الأولاد مع أبيهم الذي يهين أمهم؟ فوالدي رجل عصبي، ودائمًا نراه يتطاول على والدتي ويسيء إليها على أقل الأسباب أمامي أنا وإخوتي جميعًا، مما يجعلنا في بعض الأحيان نسيء التعامل معه ونقصر في البر والإحسان إليه، فما الحكم في ذلك، وماذا نصنع تجاهه؟
وأجاب على السائل مفتي الجمهورية الدكتور نظير عياد عبر الموقع الرسمي لدار الإفتاء قائلا: الأب له حق البر والإحسان في جميع الأحوال، ولا يسقط هذا الحق بإساءته، أو سوء تصرفاته مع الأم، وعلى الأولاد توجيه النصح إليه بالمعروف، وأن يختاروا لذلك الوقت المناسب والأسلوب اللائق، مع الدعاء له بالصلاح والهداية، وإن تعذر عليهم ذلك فيمكنهم اللجوء إلى أهل الخير والصلاح من الأقارب أو غيرهم؛ لرده عن سوء تصرفه.
حث الشرع الشريف على حسن العشرة بين الزوجين
من المقرر شرعًا أن الإسلام جعل الألفة والمودة والرحمة الأساس الذي تبنى عليه العلاقة بين الزوجين؛ قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21]؛ قال الإمام البغوي في "تفسيره" (3/ 575، ط. دار إحياء التراث العربي): [جعل -أي: الحق سبحانه وتعالى- بين الزوجين المودة والرحمة، فهما يتوادان ويتراحمان وما شيء أحب إلى أحدهما من الآخر من غير رحم بينهما] اهـ.
وقد حثَّ الشرع الشريف الزوج بأن يحسن العشرة مع زوجته، وأن يعاشرها بالمعروف؛ لا أن يهينها أو يسيء إليها أو يؤذيها بقول أو فعل؛ قال تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 19].
قال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (5/ 97، ط. دار الكتب المصرية): [قوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي: على ما أمر الله به من حسن المعاشرة. والخطاب للجميع... ولكن المراد بهذا الأمر في الأغلب الأزواج، وهو مثل قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: 229]، وذلك توفية حقها من المهر والنفقة، وألا يعبس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون منطلقًا في القول لا فظًّا ولا غليظًا ولا مظهرًا ميلًا إلى غيرها] اهـ.
وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم معيار الخيرية في الأزواج قائمًا على حسن معاملتهم لزوجاتهم، والإحسان إليهم، وكف الأذى عنهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِكُمْ» أخرجه الأئمة: الترمذي، وأحمد، وابن حبان.
وفي رواية أخرى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ مِنْ أَكْمَلِ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا، وَأَلْطَفَهُمْ بِأَهْلِهِ» أخرجه الأئمة: الترمذي، والنسائي، وأحمد، وابن أبي شيبة، وابن حبان، والحاكم.
قال الشيخ عبد الرؤوف المُناوي في "فيض القدير" (2/ 97، ط. المكتبة التجارية الكبري): [(وخياركم خياركم لنسائهم) أي: من يعاملهن بالصبر على أخلاقهن... وطلاقة الوجه، والإحسان، وكف الأذى، وبذل الندى، وحفظهن من مواقع الريب] اهـ.
حكم إهانة الزوج زوجته والتطاول عليها بالسبّ أو الضرب
لا يجوز للزوج أن يهين زوجته أو يتطاول عليها بأي حال من الأحوال؛ لأن إهانة الزوجة والاستطالة عليها بالسبِّ أو الضَّرب حرام شرعًا؛ فعن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: «أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، أَوِ اكْتَسَبْتَ، وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحْ، وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ» أخرجه الأئمة: أبو داود، والنسائي، والبيهقي، وأحمد.
قال الإمام الخطابي في "معالم السنن" (3/ 221، ط. المطبعة العلمية): [قوله: «وَلَا تُقَبِّحْ»، معناه: لا يسمعها المكروه ولا يشتمها؛ بأن يقول: قبحك الله، وما أشبهه من الكلام] اهـ.
بيان فضل برّ الوالدين والإحسان إليهما وحرمة عقوقهما
وقد أمر الله تعالى ببر الوالدين والإحسان إليهما، والتلطف في معاملتهما، وقرن عبادته ببرهما، وشكرهما بشكره، ونهى عن كل ما يؤذيهما من قول أو فعل؛ قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 23-24].
قال الإمام القرطبي في "تفسيره" (14/ 17): [أمر الله سبحانه بعبادته وتوحيده، وجعل بر الوالدين مقرونًا بذلك، كما قرن شكرهما بشكره... ومن البر بهما والإحسان إليهما: ألا يتعرض لسبهما ولا يعقهما، فإن ذلك من الكبائر بلا خلاف] اهـ.
وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي من أعظم دعائم الإسلام، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلت: يا رسول الله، أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا»، قلت: ثم أي؟ قال: «ثُمَّ بِرُّ الوَالِدَيْنِ»، قلت: ثم أي؟ قال: «الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» متفق عليه.
وقد أجمع الفقهاء على حرمة عقوق الوالدين، وكونه كبيرة من كبائر الذنوب، قال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم" (16/ 104، ط. دار إحياء التراث العربي): [وأجمع العلماء على الأمر ببر الوالدين وأن عقوقهما حرام من الكبائر] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري شرح صحيح البخاري" (10/ 406، ط. دار المعرفة): [والعقوق -بضم العين المهملة- مشتقٌّ من العق، وهو القطع، والمراد به: صدور ما يتأذَّى به الوالد من ولده من قولٍ أو فعلٍ، إلا في شرك أو معصية] اهـ.
كيفية تعامل الأولاد مع أبيهم الذي يهين أمهم
الأمر ببر الوالدين والإحسان إليهما، وفعل ما يسرهما، وعدم الإساءة إليهما بالقول أو الفعل جاء عامًّا غير مشروط بصلاحهما وحسن تصرفهما، فالوالدان لهما حق البر والإحسان في جميع الأحوال، ولا يسقط بإساءتهما.
وإذا أساء الرجل إلى زوجته أمام أولادهما، فإنه ينبغي على الأولاد حينئذ توجيه النصح إلى والدهم بالمعروف من غير عنف أو إساءة، وذلك النصح يستلزم الحكمة في الشكل والتوقيت والأسلوب والمفردات؛ ليتحقق الغرض المطلوب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحتى لا يؤدي إلى مفسدة أعظم؛ لأن من الشروط التي اشترطها الفقهاء لإنكار المنكر: ألا يؤدي ذلك الإنكار إلى مفسدة أكبر، فإن أدى إلى مفسده أكبر، كان منهيًّا عنه، وأن يأمن المُنكِر من أن المُنكَر عليه لا يزيد عنادًا، وأن يغلب على ظن المُنكِر أن إنكاره يزيل المنكر.
قال الشيخ الخرشي في "شرحه على مختصر خليل" (3/ 109، ط. دار الفكر): [الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية بشروط... أن يأمن أن يؤدي إنكاره إلى منكر أكبر منه... وأن يعلم أو يظن أن إنكاره يزيل المنكر، وأن أمره بالمعروف مؤثر فيه ونافع. وبفقد الشرطين الأولين يحرم الأمر والنهي] اهـ.
وقال العلامة شمس الدين الرملي في "نهاية المحتاج" (8/ 49، ط. دار الفكر): [وشرط وجوب الأمر بالمعروف أن يأمن على... غيره، بأن يخاف عليه مفسدة أكثر من مفسدة المنكر الواقع... وأمن أيضا أن المنكر عليه... لا يزيد عنادًا، ولا ينتقل إلى ما هو أفحش] اهـ.
وقال الشيخ البهوتي في "كشاف القناع" (3/ 37، ط. دار الكتب العلمية): [وقال ابن عقيل في آخر "الإرشاد": من شروط الإنكار: أن يعلم أو يغلب على ظنه أنه لا يفضي إلى مفسدة] اهـ.
وقال الشيخ ابن مفلح في "الآداب الشرعية والمنح المرعية" (1/ 449، ط. عالم الكتب): [وقال -الإمام أحمد- في رواية حنبل: إذا رأى أباه على أمر يكرهه يعلمه بغير عنف ولا إساءة، ولا يغلظ له في الكلام، وإلا تركه] اهـ.
وإذا تعذر على الأولاد منع الأب من الإساءة إلى أمهم، فإنه يمكنهم اللجوء إلى أهل الخير والصلاح من الأهل والأقرباء، أو غيرهم ممن يستطيع رده عن ما يقوم به من التصرفات السيئة.
الخلاصة
بناءً على ما سبق وفي واقعة السؤال: فالأب له حق البر والإحسان في جميع الأحوال، ولا يسقط هذا الحق بإساءته، أو سوء تصرفاته مع الأم، وعلى الأولاد توجيه النصح إليه بالمعروف، وأن يختاروا لذلك الوقت المناسب والأسلوب اللائق، مع الدعاء له بالصلاح والهداية، وإن تعذر عليهم ذلك فيمكنهم اللجوء إلى أهل الخير والصلاح من الأقارب أو غيرهم؛ لرده عن سوء تصرفه.