في سياق التوترات الإقليمية المتصاعدة، يُثير رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو جدلًا واسعًا بتصريحاته حول ضرورة تحول إسرائيل نحو نموذج اقتصادي مغلق جزئيًا، مستلهمًا من مفهوم "سوبر سبارتا"، حيث يؤكد على الاكتفاء الذاتي في مواجهة العزلة الدبلوماسية المتزايدة.
هذا الرأي، الذي أدلى به في سبتمبر 2025، يعكس تحولًا استراتيجيًا يهدف إلى تعزيز الاكتفاء الذاتي في مجالات الدفاع والطاقة والإنتاج المحلي، لكن في الوقت نفسه، يُبرز مأزقًا عميقًا يهدد الاقتصاد الإسرائيلي الذي اعتمد تاريخيًا على الاندماج العالمي والتجارة الدولية.
ووفقًا لتقرير مفصل نشرته صحيفة "الإندبندنت" البريطانية، فإن هذه الرؤية تأتي وسط أزمة اقتصادية حقيقية، حيث يواجه المزارعون الإسرائيليون صعوبات في بيع محاصيلهم مثل المانغو والأفوكادو والبطاطا، مع تراكم المنتجات بسبب رفض التجار الأوروبيين الرد على الرسائل وتجميد العقود، مما يعكس تأثيرًا مباشرًا للمقاطعة الدولية الناتجة عن الحرب في غزة.
وأشارت الصحيفة إلى أن محللين اقتصاديين يرون في هذه المقاربة محاولة لتلطيف حقيقة العزلة الاقتصادية المتفاقمة، حيث تحولت التصريحات السياسية المنددة بإسرائيل إلى إجراءات اقتصادية تشبه "الحصار الصامت"، مما يهدد بأزمة غذائية داخلية.
هذا النهج، الذي يُقارن بـ"أثينا وسوبر سبارتا"، يُقدم كخيار دفاعي لمواجهة التهديدات الأمنية، لكنه يتجاهل التبعات الاقتصادية طويلة الأمد، مثل انخفاض الاستثمارات الأجنبية وفقدان الشراكات التجارية، خاصة مع الاتحاد الأوروبي الذي يمثل الشريك التجاري الأكبر لإسرائيل بنسبة 32% من تجارتها السلعية في 2024، بقيمة تبادل بلغت 42.6 مليار يورو.
من الناحية الاستراتيجية، يمكن اعتبار الانغلاق الاقتصادي خيارًا مدروسًا لتعزيز الاستقلالية في ظل التحديات الجيوسياسية. فقد أشار نتنياهو إلى أن إسرائيل تواجه "عزلة دبلوماسية" ناتجة عن الحرب في غزة، التي امتدت لأكثر من عامين بحلول سبتمبر 2025، مما دفع الحكومة إلى التركيز على بناء صناعة أسلحة مستقلة وتعزيز الإنتاج المحلي.
ومع ذلك، يبرز تقرير "الإندبندنت" البريطانية أن هذا التحول يأتي رد فعل على تراجع ملموس في الصادرات إلى أوروبا بنسبة 15.4% بين يونيو وأغسطس 2025 مقارنة بالعام السابق، وهو ثلاثة أضعاف التراجع العام للصادرات الإسرائيلية الذي بلغ 5%، مع إلغاء عقود بنسبة 84% من دول الاتحاد الأوروبي بسبب أسباب سياسية مرتبطة بالحرب.
كما أفاد المسح الذي أجراه اتحاد المصنعين الإسرائيليين في 17 و18 سبتمبر 2025، والذي شمل 132 صناعيًا كبيرًا، أن نحو نصف المصدرين أبلغوا عن إلغاء أو عدم تجديد عقود، مع 71% من هذه الإلغاءات لأسباب سياسية، و76% يؤكدون أن الحرب أضرت بصادراتهم، حيث تجاوز الضرر 40% من إجمالي الصادرات لدى 21% منهم.
هذا النهج يعتمد على قوة إسرائيل في مجال التكنولوجيا العالية والابتكار، حيث يُتوقع أن يعزز الاكتفاء الذاتي في الطاقة المتجددة والزراعة، مما يقلل الاعتماد على الواردات.
ومع ذلك، يحذر خبراء اقتصاديون، مثل مانويل ترايتنبرج الرئيس السابق للمجلس القومي للاقتصاد، من أن تقليص الروابط الاقتصادية مع العالم سيؤدي إلى "انهيار مستوى المعيشة بشكل دراماتيكي" وفقدان القدرة على تمويل الجيش والخدمات الاجتماعية، كما نقلت الصحيفة.
في الواقع، يُظهر الاقتصاد الإسرائيلي مرونة نسبية، حيث ارتفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 17.3% في الربع الأول من 2024 بعد انكماش حاد، لكن الاستمرار في الحرب يهدد بإبطاء النمو إلى 1.5% في 2024 و4.2% في 2025، وفقًا لبنك إسرائيل.
ومع ذلك، يتجاوز هذا النهج الاستراتيجي إلى مأزق دبلوماسي عميق، حيث أدت الحرب في غزة إلى تكاليف اقتصادية هائلة تصل إلى 55.6 مليار دولار بين 2023 و2025، معظمها غير مباشرة مثل تباطؤ الإنتاجية وفقدان الاستثمارات.
تقرير من بنك إسرائيل يؤكد أن 90% من الصدمة الاقتصادية تأتي من هذه التأثيرات غير المباشرة، بما في ذلك تعبئة 300 ألف جندي احتياطي، مما أدى إلى إغلاق عشرات الآلاف من الشركات وانخفاض السياحة بنسبة كبيرة.
دبلوماسيًا، زادت العزلة بعد قرارات مثل خفض تصنيف الائتمان من فيتش إلى A في أغسطس 2024، محذرة من استمرار الحرب إلى 2025 أو ما بعدها ومخاطر تصعيد متعدد الجبهات، مما يزيد من الإنفاق العسكري ويدمر البنية التحتية.
كما أن الدول العربية، خاصة في اتفاقيات إبراهيم، تواجه معضلة في الحفاظ على العلاقات مع إسرائيل، حيث يمكن أن يؤدي الانسحاب الاقتصادي إلى تكاليف حقيقية.
هذا المأزق يعمق الفجوة الاجتماعية داخل إسرائيل، حيث يعاني المصنعون من إلغاء عقود بنسبة 84% من الاتحاد الأوروبي، ويرفض 54% من العملاء الجدد التعامل مع إسرائيل، كما يظهر في تغريدات على منصة إكس تعكس القلق من الانهيار الاقتصادي.
وفي تقرير "الإندبندنت" البريطانية، يُبرز كيف أدت الرسوم الجمركية الأمريكية تحت إدارة ترامب إلى إغراق السوق الأوروبية بمنتجات بديلة، مما أخرج الإسرائيليين من المنافسة، بالإضافة إلى إغلاق أسواق غزة والضفة الغربية، مما أدى إلى "سوق محلية غارقة بالفاكهة الفاسدة" ومزارعين على حافة الإفلاس.
كما أكدت نيني غولدفاين من شركة NSG أن هذا الوضع يؤدي إلى خسائر مباشرة للشركات وانخفاض التجارة الخارجية، مؤثرًا على كل مواطن إسرائيلي.
تحليليًا، يبدو أن الانغلاق الاقتصادي ليس خيارًا استراتيجيًا مستدامًا بقدر ما هو رد فعل على مأزق دبلوماسي يعمق العزلة. ففي حين يساعد الدعم الأمريكي في الحفاظ على الاستقرار المالي، إلا أن الاعتماد على تعويضات الاحتياطيين – التي بلغت 60 مليار شيكل بحلول مايو 2025 – يُعتبر "حيلة مالية" تحول الإنفاق العسكري إلى استهلاك أسري. هذا يحافظ على الاستهلاك قصير الأمد لكنه يزيد الدين العام إلى 70% من الناتج المحلي، مما يهدد بالانهيار إذا توقف الدعم الخارجي. بالإضافة إلى ذلك،
وأدت الحرب إلى خسائر اقتصادية فلسطينية هائلة، مع انكماش اقتصاد غزة بنسبة 80% في الربع الرابع من 2023، وزيادة البطالة إلى 57%، مما يعكس تأثيرًا إقليميًا أوسع يشمل لبنان ومصر.
وفي سياق تقرير "الإندبندنت" البريطانية، يُظهر كيف يحاول بعض المصدرين الإسرائيليين الالتفاف عبر استهداف أسواق مثل اليابان وكندا، أو إخفاء مصدر المنتجات مثل الأفوكادو (خامس أكبر مصدر عالميًا بـ331 مليون دولار في 2023) والبطاطس (48% من صادرات الخضروات)، لكن حملات المقاطعة العالمية، التي انضم إليها مشاهير وسلاسل متاجر في إيطاليا وبريطانيا، تحول دون ذلك، مع رفض المنتجات التي تحمل رمز 792 الإسرائيلي.
ويكشف هذا الوضع أن الاقتصاد المغلق قد يكون خطوة نحو "سبارتا" عسكرية، لكنه يخاطر بتحويل إسرائيل إلى دولة معزولة اقتصاديًا، حيث يتجاوز الضرر الدبلوماسي الفوائد الاستراتيجية، مما يستدعي حلولًا سياسية لإنهاء الصراع بدلًا من تعميقه، خاصة مع مخاوف من خفض تصنيف موديز الائتماني الذي قد يرفع الفوائد على القروض ويشكل عامل طرد للاستثمارات الأجنبية.