هيئة التنمية الصناعية تتحدى قرارات كامل الوزير وتغلق المصانع
غموض المعايير يهدد مستقبل الصناعة
استثمارات بمليارات تواجه شبح التجميد
المستثمرين والعمال ينتظرون لقاء وزير الصناعة
تولي الدولة المصرية الصناعة أولوية قصوى، وهو ما يؤكد عليه الرئيس السيسي في أكثر من مناسبة، ورغم ذلك يرصد موقع "تحيا مصر" أزمة مصانع تحويل الخردة إلى بيلت، وهي أزمة لم تعد شأنا فنيا ضيقا، بل تحولت إلى قضية كبرى ترتبط بمستقبل صناعة الحديد في مصر، بعدما باتت هذه الصناعة محركا رئيسيا للتنمية العمرانية ومشروعات البنية التحتية. الملف الذي نفتحه اليوم يكشف عن مستجدات مثيرة للانتباه، تتعلق بقرارات غير مفهومة من هيئة التنمية الصناعية، وما ترتب عليها من آثار مقلقة لمستثمرين وعمال على حد سواء.
يمثل البيلت، باعتباره المادة الخام لصناعة حديد التسليح، العمود الفقري لمشروعات البناء. ومنذ أن دخلت هذه الصناعة إلى السوق المصرية مطلع عام 2020، تغيّر المشهد كليا، حيث لم تعد الدولة مضطرة إلى استيراد كميات ضخمة تكلف الموازنة مليارات الدولارات. لكن القرارات الأخيرة المتعلقة بتراخيص المصانع أعادت المخاوف من جديد، بعدما وضعت عشرات المصانع المتوسطة في مأزق يهدد استمراريتها.

وإذا كانت المصانع الكبرى مثل عز والجارحي وبشاي قد استقرت أوضاعها بحكم قوتها وحجم إنتاجها، فإن المصانع المتوسطة، وعددها نحو خمسين مصنعا بطاقة إنتاجية تتراوح بين خمسين ومائتي ألف طن سنويا، وجدت نفسها أمام اختبارات عسيرة. فبينما حصل 34 مصنعا منها على تراخيص بعد تقنين أوضاعها، بقيت مصانع أخرى بلا ترخيص، وبعضها أغلق بالفعل، فيما ينتظر البعض الآخر المصير ذاته.
قرارات كارثية بلا معايير واضحة
في قلب الأزمة يقف القرار رقم 1447 لسنة 2025 الصادر عن هيئة التنمية الصناعية، والذي جاء صادما لعدد كبير من المستثمرين. فقد رفضت الهيئة 20 مصنعا ووافقت على 14، دون أن تعلن معايير محددة للرفض أو القبول. هذا الغموض فتح الباب للتساؤلات: لماذا حصلت مصانع بعينها على الموافقة بينما حُرم غيرها رغم تماثل الظروف؟
المفارقة الأكبر أن الهيئة اشترطت شرطا واحدا، هو أن يكون السجل التجاري للمصنع قد صدر قبل مايو 2023. وبناء على ذلك يتم تحصيل غرامة من صاحب المصنع وإعطاؤه الترخيص، بينما تُرفض السجلات اللاحقة لذلك التاريخ. المشكلة أن هذا الشرط لم يكن مطروحا حين بدأت هذه المصانع عملها منذ عام 2019، ما جعل القرار يبدو وكأنه يطبق بأثر رجعي.
الأمر لم يتوقف عند ذلك، إذ فوجئ أصحاب مصانع استوفت سجلاتها الشرط المطلوب بالرفض رغم مطابقتها للأوراق المعلنة. وعلى الجانب الآخر، حصلت مصانع أخرى على تراخيص كاملة دون أن تكون قائمة فعليا على الأرض، الأمر الذي أثار حيرة المستثمرين وأشاع شعورا بغياب العدالة والشفافية.
استثمارات مهددة وعمالة في مهب الريح
وراء أبواب هذه المصانع لا تكمن مجرد آلات وخطوط إنتاج، بل استثمارات بمليارات الجنيهات. بعض هذه الاستثمارات جاء في صورة شراكات مع مستثمرين أجانب نقلوا خبراتهم لتدريب العمالة المصرية ورفع كفاءتها، ما جعل هذه المصانع بمثابة مدارس عملية للأيدي العاملة المحلية.
وعلى الجانب الاجتماعي، فإن أكثر من عشرة آلاف عامل مرتبطون مباشرة بهذه المصانع، بخلاف الوظائف غير المباشرة في النقل والخدمات والتوريد. أي أن قرار الغلق لا يعني فقط توقف إنتاج البيلت، بل يهدد آلاف الأسر بالتشريد في وقت يحتاج فيه السوق المصري إلى كل يد عاملة.
المشهد الأكثر إيلاما أن هذه المصانع ساعدت الدولة على تحقيق إنجاز وطني غير مسبوق. فقبل عام 2019 كانت مصر تستورد نحو سبعة ملايين طن من البيلت سنويا بتكلفة تصل إلى سبعة مليارات دولار. ومع بدء هذه المصانع في الإنتاج المحلي، تحولت مصر من دولة مستوردة إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي، وهو ما انعكس إيجابا على الاقتصاد وميزان المدفوعات، ورغم ذلك نترك تلك المؤشرات لكي تتراجع نظرا لقرارات غير مفهومة.
مناشدة عاجلة لوزير الصناعة
وسط هذه الأجواء، يتطلع أصحاب المصانع إلى بارقة أمل تأتي من تدخّل وزير الصناعة الفريق كامل الوزير. مطالبهم محددة: عقد اجتماع عاجل وتشكيل لجنة تحت إشرافه المباشر للنظر في التظلمات. ثقتهم في شخص الوزير كبيرة، فهم يعتبرونه رجل تفكيك الأزمات الذي أثبت في محطات كثيرة أنه قادر على إنصاف الجهود الوطنية وتوجيه بوصلة التنمية في الاتجاه الصحيح.
اللوم الذي يوجهونه لا ينصرف إلى الوزير أو القيادة السياسية، بل إلى هيئة التنمية الصناعية التي اتخذت قرارات متناقضة مع توجهات الدولة. بالنسبة لهم، هذه القرارات تعني ببساطة تعطيل مشروع وطني أثبت نجاحه، وإرسال إشارات سلبية للمستثمرين في وقت تسعى فيه الدولة لجذب الاستثمارات وتعزيز الثقة في مناخها.
والمفارقة أن الوزير نفسه صرح مرارا بأن السوق المصرية بحاجة إلى المزيد من مصانع البيلت لسد الطلب المتنامي على الحديد. فكيف يغلق الباب أمام مصانع قائمة بالفعل وتعمل بكامل طاقتها؟ أصحاب المصانع يطرحون هذا السؤال على أمل أن تصل أصواتهم للوزير الذي يعرف جيدا حجم الخسارة إذا تُركت الأزمة دون حل.
تساهل غير مقبول مع الممتنعين عن التراخيص
من المثير للدهشة أن عملية تقنين مصانع البيلت المرتبطة بصناعة الحديد ما زالت تسير بوتيرة بطيئة للغاية، رغم أن ٣٤ مصنعاً تقدّموا طواعية للحصول على التراخيص، إلا أن ١٤ مصنعاً فقط حصلوا عليها، في حين تُركت عشرات المصانع الأخرى تنتظر بين الرفض والمعاينة والتأجيل،الأمر يوحي بوجود خلل إداري يجعل التقنين عائقاً بدلاً من أن يكون وسيلة لتسوية الأوضاع ودفع عجلة الصناعة.
الأغرب من ذلك أنّ ما يقارب ٢٠ مصنعاً رُفضت طلباتها، مع أنّ أغلبها مستوفٍ للشروط وقابل للتوفيق خلال فترة زمنية محددة، بل إن الجهات المختصة أقرت بضرورة إعادة المعاينة وكأن الهدف هو إطالة الإجراءات لا تسريعها. ستة أشهر كاملة تمر والمصانع في حالة ترقّب وضبابية، وهذا التباطؤ ينعكس سلباً على قطاع حيوي يمسّ الاقتصاد بشكل مباشر.

أما المفارقة الأكبر فهي وجود مصانع لم تتقدّم أساساً للحصول على التراخيص، ومع ذلك ما زالت تعمل وتنتج كأن شيئاً لم يكن، بل تحصل على الكهرباء وتستهلكها دون أن تتحمّل أي التزامات ضريبية أو رسوم مستحقة. فكيف يُترك هؤلاء بلا مساءلة بينما يُرهق المتقدّمون بالانتظار والفحص المتكرر؟ إن ذلك يثير تساؤلات جدّية حول عدالة الإجراءات وشفافية عملية التقنين برمّتها.
دعم الصناعة الوطنية فوق كل اعتبار
اليقين الثابت أن الصناعة الوطنية لا يمكن أن تكون ضحية قرارات غير مفسرة. فهي الركيزة التي تبنى عليها مشروعات الدولة العملاقة، من شبكات الطرق إلى المدن الجديدة. وإذا كان الحديث عن دعم الصناعة يمثل توجها استراتيجيا، فإن ما يحدث مع مصانع البيلت يعد تناقضا صارخا مع هذا التوجه.
المطلوب اليوم ليس أكثر من الشفافية: معايير واضحة، لجان فنية محايدة، قرارات معلنة ومسببة. فالمستثمرون لا يرفضون الالتزام بالقانون أو دفع الرسوم، لكنهم يرفضون الغموض الذي يهدر سنوات من العمل والجهد.
إنقاذ هذه المصانع ليس خدمة لمستثمر أو آخر، بل هو إنقاذ لقطاع كامل ساعد الدولة على تحقيق الاكتفاء الذاتي من مادة استراتيجية. ومع كل يوم يمر، تتزايد المخاطر، سواء بخسارة أسواق خارجية محتملة أو بإحباط شريك أجنبي قد يعيد النظر في استثماراته. وفي النهاية، يبقى التدخل العاجل ضرورة لحماية الصناعة الوطنية من قرارات قد تحرم مصر من إنجاز اقتصادي كبير.