لماذا نؤجل دفع الفواتير رغم معرفتنا بموعدها؟ ولماذا نشتري أشياء لم نفكر فيها من قبل لمجرد أن المتجر عرضها بطريقة جذابة؟ هذه الأسئلة اليومية يجيب عنها علم حديث نسبيًا هو الاقتصاد السلوكي، الذي كشف أن الإنسان ليس دائمًا عقلانيًا كما ظنّت النظريات الاقتصادية الكلاسيكية.
بدأ الاهتمام مع دانيال كانيمان، عالم النفس الحاصل على نوبل 2002، الذي أوضح أن عقولنا تعمل بنظامين: سريع وعاطفي يقود قراراتنا اليومية، وبطيء منطقي يحتاج إلى جهد للتفكير. هذه الرؤية فسّرت سلوكيات مثل الميل إلى القروض الاستهلاكية أو الضعف أمام الإعلانات المغرية.
لاحقًا، جاء ريتشارد ثيلر الحاصل على نوبل 2017، ليترجم النظرية إلى أدوات عملية في السياسات العامة. مع كاس سنستين، قدّم كتاب Nudge أو "الدفعة البسيطة"، الذي شرح كيف يمكن لتغييرات صغيرة في عرض الخيارات أن تغيّر سلوك الأفراد دون إجبار.
تجارب بريطانيا وأمريكا أثبتت نجاح النهج. مجرد تعديل رسالة أو إرسال تذكير قصير رفع نسب دفع الضرائب وزاد تسجيل الطلاب في الجامعات. لكن كيف انعكس ذلك على مصر؟
رغم غياب وحدة رسمية متخصصة، ظهرت تجارب ملموسة
الصحة: مبادرة "100 مليون صحة" استخدمت فحوصات مجانية ورسائل إعلامية وشعارات محفزة، لتتحول إلى واحدة من أنجح الحملات الصحية في تاريخ مصر.
العدالة الاجتماعية: برنامج "تكافل وكرامة" صُمم ليمنح الدعم مشروطًا بسلوكيات إيجابية مثل انتظام الأبناء في التعليم والرعاية الصحية، وهو تطبيق مباشر لفكر "النودج".
الطاقة: رسائل قصيرة مثل "استهلاكك أعلى من جيرانك" دفعت العديد من الأسر لخفض استهلاك الكهرباء وتقليل الفواتير.
المشروعات الصغيرة: تبسيط الإجراءات والمعلومات شجّع رواد الأعمال على الانضمام إلى الاقتصاد الرسمي بدل العمل في الموازي.
الاقتصاد السلوكي يثبت أن التغيير الكبير يبدأ بجملة ذكية، خيار افتراضي مدروس، أو رسالة قصيرة في توقيت مناسب. وفي بلد يواجه تحديات اقتصادية بحجم مصر، يمكن لهذه الأدوات أن توفّر ملايين الجنيهات وتغيّر عادات ملايين المواطنين دون قوانين معقدة أو تكاليف ضخمة.
إنها ثورة صامتة تذكّرنا بأن الإنسان ليس آلة حسابية تسعى وراء المنفعة فقط، بل كائن يتأثر بالعواطف والعادات والمجتمع. ومن هنا، قد يكون الاستثمار في "النودج" أو الدفعة السلوكية من أسرع الطرق لإحداث تغيير ملموس في حياة المصريين.