في مشهد أصبح مألوف في فرنسا سقطت في الثامن من سبتمبر الحالي الحكومة الرابعة في خلال عامين، والسبب واحد، الفشل في تمرير مشروع الميزانية ذات التوجهات التقشفية الهادف لخفض عجز الموازنة ووضع البلاد على طريق صحيح لحل أزمة الديون.
ويخطئ من يظن أنها مشكلة فرنسا فقط، فالعالم أصبح قابع في كابوس ديون ينتظر الكثير أن ينفجر في أي لحظة، ولا يفرق ذلك بين دول الرفاهية الأوروبية، أو النامية التي تسعى لتحقيق التنمية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
بعد عقود من الاستدانة الحكومية تارة بهدف دعم الاقتصاد، وتارة أخرى بسبب الصدمات مثل وباء كورونا، يبدو أن السقف قد وصل لمستويات يصعب تخطيها. في فرنسا التي تعاني اضطرابا سياسيا وماليا، وصلت نسبة الدين الحكومي بنهاية 2024 إلى 113% من الناتج المحلي الإجمالي.
بالجوار منها إيطاليا وصلت النسبة خلال الفترة نفسها إلى 135% من الناتج المحلي. فيما تظل اليابان تحتفظ بالريادة بين الاقتصادات المتقدمة من حيث معدلات الديون، حيث وصلت ديونها إلى 237% من ناتجها المحلي بنهاية 2024.
ما يمكن وصفه "بتلال الديون" لكثير من الدول المتقدمة والنامية أصبح يؤرق صانعي السياسات، فمن ناحية أدمنت الاقتصادات الإنفاق الحكومي ولا يمكنها فك الارتباط بطريقة سلسلة، وبالأخص في الجوانب المرتبطة بالحماية الاجتماعية والرعاية الصحية. ومن ناحية أخرى تؤدي تكاليف الاستدانة الباهظة الناتجة عن ارتفاع أسعار الفائدة مع انخفاض الإيرادات العامة إلى ضغوط على المالية العامة والميزانيات الحكومية.
ارتفاع الدين يأتي في وقت تحتاج فيه الحكومات إلى تبنى برامج وطنية منفردة لدعم اقتصاداتها، عمودها الرئيسي هو الإنفاق الحكومي، سواء لتطوير البنية التحتية ودعم المستهلكين، أو لتقديم الحوافز للشركات لحمايتها من الصدمات التجارية الناتجة عن الرسوم الجمركية، والحماية من المنافسة الخارجية. إضافة إلى الحاجة لمضاعفة الإنفاق الدفاعي في ظل اتساع التوترات الجيوسياسية في المناطق المجاورة.
ويمكن القول إن مختلف السياسات فشلت حتى الآن في إيجاد علاج للسيطرة على الدين، يمكن تفسير ذلك بالمقاومة الصلبة من الفاعلين في الاقتصاد والضغوط السياسية التي تتعرض لها الحكومات من الناخبين والشركات. إضافة إلى الصدمات غير المتوقعة التي تجبر الحكومات عن التخلي عن سياسات كبح الديون وضبط الإنفاق.
ولعل المثال الأبرز في السنوات الأخيرة كان وباء كورونا، الذي دفع الحكومات للاقتراض وضخ الأموال في الاقتصاد لتخفيف الضغط عن الشركات، ودعم الأسر بعد إغلاق الاقتصاد وموجه التسريحات العمالية التي طالت قطاعات هامة مثل السياحة.
وعلى الرغم من تعقيد مشكلة الديون إلى أن الحكومات قد تكون في حاجة إلى سياسات متوازنة لضبط الاقتراض والسيطرة على الإنفاق غير الضروري. هذه السياسات تبدأ من البنوك المركزية عبر الاستمرار في دورة التيسير النقدي لتقليل العبء الناتج عن ارتفاع تكاليف الاقتراض. مروراً بالسياسات المالية التي تبحث عن مصادر غير تقليدية للإيرادات، وتعطي الأولوية للقطاع الخاص في تولي مهمة التنمية وتمويل المشاريع الكبرى، وتركز على دعم الإصلاحات في قطاعات التعليم والبحث والتطوير والابتكار.
المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي عليها دور مهم في رسم السياسات والبرامج وتوفير التمويل للدول وبخاصة النامية لدرء مخاطر ارتفاع مستويات الديون المحلية. وذلك عبر رسم سياسات تلائم كل اقتصاد، تركز على معالجة الاختلالات وبناء خطط الإصلاح المالي والاقتصادي، مع ضرورة ألا يؤدي ذلك إلى ضغوطات معيشية على الأسر أو اقتطاعات في برامج الحماية الاجتماعية والقطاعات الأساسية.
في الختام لم تعد أزمة الديون حدث عرضي على طاولة صانعي السياسات، ولكن تراكمها ومخاطر انفلاتها حولها إلى قضية أساسية قادرة على الإطاحة بحكومات والإتيان بغيرها. وفي ظل اقتصاد عالمي مترابط فإن أي أزمة وبخاصة للاقتصادات المتقدمة مثل التخلف عن السداد قد تدفع الاقتصاد العالمي لداومة من الأزمات المالية والاقتصادية الكبرى.
مستشارة اقتصادية
إخلاء مسؤولية إن موقع عاجل نيوز يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.