أخبار عاجلة
سعر الدولار اليوم الأربعاء 10 سبتمبر 2025 في مصر -

مشروعية زائفة.. حين يتحول الموت إلى سلعة.. قراءة فى خطاب الشهادة الداعشى

مشروعية زائفة.. حين يتحول الموت إلى سلعة.. قراءة فى خطاب الشهادة الداعشى
مشروعية زائفة.. حين يتحول الموت إلى سلعة.. قراءة فى خطاب الشهادة الداعشى
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

تأتي افتتاحية العدد 511 من صحيفة النبأ الصادر مساء الخميس 2 سبتمبر 2025، في لحظة فارقة يعيشها تنظيم داعش، إذ يواجه سلسلة من الهزائم العسكرية والضربات الأمنية في أكثر من ساحة. ففي سوريا والعراق تراجعت قدراته القتالية بفعل العمليات المشتركة للقوات المحلية والدولية، بينما في الصومال ومنطقة الساحل باتت قياداته الميدانية هدفاً دائماً للعمليات الجوية والاستخباراتية. هذا التراجع الميداني أضعف قدراته اللوجستية والتنظيمية، وخلق حالة من الإحباط داخل صفوفه، وهو ما يجعل الحاجة إلى خطاب تعبوي أشد إلحاحاً.
في ظل هذه الهزائم، يسعى الخطاب إلى إعادة شحن معنويات المقاتلين والأنصار عبر استدعاء مفهوم «الشهادة» كخيار بديل عن النصر العسكري. فبدلاً من قياس النجاح بمدى السيطرة على الأرض أو الحفاظ على الموارد، يتم تحويل البوصلة إلى «الموت المشرِّف» الذي يُصوَّر كأعلى أشكال الانتصار. بهذه الطريقة يحاول التنظيم أن يحافظ على ولاء عناصره، ويمنع موجات الانسحاب أو التراجع النفسي التي عادة ما تصاحب الهزائم الكبيرة.

التنظيم يوظف مفهوم الاستشهاد لإخفاء خساراته وهزائمه
على الصعيد الإقليمي، يستثمر داعش مناخ العنف المتفجر في مناطق مثل غزة والساحل الإفريقي لتغذية خطابه. فهذه البيئات المليئة بالتوترات السياسية والإنسانية توفر له مادة لتسويق «التضحيات» باعتبارها دفاعاً عن الدين والأمة. ومن خلال هذا الربط، يحاول التنظيم أن يمنح نفسه شرعية دينية عابرة للحدود، وأن يظهر كامتداد لمعركة كونية لا تقتصر على رقعة جغرافية محددة.
البنية والدلالات
تسعى الافتتاحية إلى إكساب خطابها مشروعية مطلقة عبر استدعاء نصوص الوحيين، القرآن والسنة، إضافةً إلى أقوال علماء بارزين مثل ابن حجر، ابن كثير، وابن رجب. هذا الإغراق في النصوص ليس بريئاً، بل يهدف إلى خلق انطباع بأن الموروث الإسلامي بأكمله يصب في خانة واحدة: تمجيد الموت في القتال. هكذا يتحول النص القرآني إلى دليل على مشروعية "الشهادة" بالمعنى الذي يطرحه التنظيم، بينما يتم تغييب السياق التاريخي للنصوص أو تعدد تأويلاتها.
من الملاحظ أن الاستشهادات لا تقدم تنوعاً في الرأي الفقهي، بل تقتصر على أقوال تؤكد الفكرة المركزية التي يريدها داعش: أن الموت في ساحة القتال هو ذروة الاصطفاء. هذا الانتقاء يضفي على الخطاب صفة «الحتمية الدينية»، ويُقصي أي إمكانية لوجود أصوات أخرى في التراث الإسلامي قدّمت فهماً أوسع للشهادة يتجاوز القتل في الحرب. بهذا، تتحول الافتتاحية إلى عملية انتزاع قسري للموروث لصالح مشروع التنظيم.
إلى جانب الشرعنة النصية، يشتغل الخطاب على البعد العاطفي بشكل مكثف. تُصوَّر الشهادة على أنها «عقد مقدس» بين العبد وربه، ثمنه الدماء والأشلاء، وهو تصوير يحمل طابعًا رومانسياً عنيفاً يحوّل القتل والفناء إلى حلم يلهث خلفه المجاهدون. هذا التأطير يجعل من مشاهد الموت والدمار معاني سامية، فيتم تجميلها عبر لغة مشحونة بالوجد الديني، وكأنها طقس مقدس لا مأساة إنسانية.
لغة الافتتاحية تسعى إلى تجريد الموت من واقعيته القاسية. لا حديث عن الخوف أو الألم أو فقدان الأحبة، بل عن «الأمنية» و«الصفقة» و«دار الشهداء». بهذا، يصبح الموت نفسه سلعة مطلوبة، أشبه ببطاقة عبور إلى الفردوس. هذا النمط من «الرومانسية العنيفة» يسهل عملية التعبئة، لأنه يقدّم التضحية بالنفس كاختيار جمالي وروحي، لا كخسارة إنسانية.
جانب آخر من البنية الخطابية يتمثل في بناء ثنائية صارمة: الشهادة في مقابل الوهن والفتنة. فمن يقبل الموت في سبيل الله يُصوَّر كالمؤمن الصادق، ومن يتردد أو يرفض يُصنَّف ضمن أهل الوهن والضعف. هذه الثنائية لا تترك مساحة لأي موقف وسط أو نقدي، بل تقسم العالم إلى أبطال وشكّاكيـن، مجاهدين وخائنين.
هذا التأطير الثنائي يؤدي وظيفة لغوية وسياسية في آن واحد: إغلاق باب النقاش داخل الصف التنظيمي. فبمجرد أن يتم وسم المعترضين بالخيانة أو الضعف، لا يعود ممكناً تداول أي وج
هة نظر بديلة. وبذلك، يتحول الخطاب إلى أداة ضبط داخلي، تضمن بقاء الجميع في حالة اصطفاف خلف القيادة، وتحرمهم من التفكير في خيارات أخرى غير القتال والانتحار باسم الشهادة.
الرسائل
الافتتاحية تخاطب أولاً عناصر التنظيم أنفسهم، وتعمل على تثبيت عقيدتهم القتالية عبر تصوير الشهادة كخيار حتمي لا مجرد أمنية دينية. فهي لا تترك لهم مجالاً للتردد أو المراجعة، بل تقدم الموت في ساحة المعركة باعتباره «صفقة إلهية» لا يجوز الفكاك منها. بهذا الخطاب، يسعى داعش إلى ردع أي نزعة انسحاب أو تفكير في النجاة الفردية، وإبقاء المقاتلين في دائرة الطاعة المطلقة، حيث يصبح الموت نفسه علامة صدق الانتماء.
أما الفئة الثانية المستهدفة فهي الأنصار الذين يتابعون إعلام التنظيم من الخارج. بالنسبة لهم، تُقدَّم الشهادة كتعويض نفسي عن الهزائم الميدانية التي تكبدها داعش. فبدلاً من النظر إلى خسارة الأراضي والمقاتلين كإفلاس سياسي وعسكري، يتم تحويلها إلى «انتصار أخروي» يضمن الجنة والنعيم الأبدي. هذا الخطاب يُبقي القاعدة الدعائية للتنظيم حيّة، ويمهّد الطريق أمام تجنيد عناصر جديدة أو إلهام «الذئاب المنفردة» التي تتحرك بدافع الحلم بالاستشهاد.
الافتتاحية توجه أيضاً رسالة إلى خصوم التنظيم، سواء كانوا جيوشاً نظامية أو تحالفات دولية. هذه الرسالة تحمل طابع الردع الرمزي، إذ توحي بأن داعش ما زال يملك مخزوناً بشرياً واسعاً مستعداً للتضحية والموت في أي لحظة. حتى في لحظات التراجع العسكري، يحاول الخطاب أن يزرع صورة عن تنظيم لا ينضب مقاتلوه، ما يشكل تهديداً نفسياً للخصوم ويعطي الانطباع بأن الحرب ضده بلا نهاية.
من خلال هذه المستويات الثلاثة، يحقق الخطاب وظيفة مركبة: يضمن الانضباط الداخلي للمقاتلين، ويُبقي الأنصار في حالة حماس معنوي، ويزرع لدى الأعداء شعوراً بالرهبة من استمرارية العنف. إن هذا التوزيع المتوازن للرسائل يعكس براعة في بناء خطاب متعدد الطبقات يخاطب جماهير مختلفة في آن واحد، لكنه في النهاية يقوم على إعادة إنتاج الموت كوسيلة للبقاء الرمزي للتنظيم رغم انحساره الواقعي.
الأثر المحلي والإقليمي والدولي
على المستوى المحلي، خصوصاً في الساحات التقليدية لنشاط التنظيم كسوريا والعراق، تأتي الافتتاحية كأداة معنوية لمواجهة حالة التراجع والانشقاقات التي طالت صفوفه. فالتنظيم يحاول إعادة إنتاج صورة «الشهادة» باعتبارها تعويضاً عن الخسائر الكبيرة التي مُني بها في المعارك، وتحويل موت عناصره من هزيمة ميدانية إلى رصيد رمزي. هذا الخطاب يهدف إلى الحفاظ على تماسك ما تبقى من أفراده وإقناعهم بأن التضحيات لم تذهب سدى، بل هي جزء من مشروع أكبر يتجاوز حدود الهزيمة الآنية.
إقليمياً، يتغذى النص على مناخ العنف المستعر في أكثر من ساحة صراع مثل منطقة الساحل، غزة، وأفغانستان، حيث يجد في هذه البيئات مادة خصبة لإعادة تدوير مفهوم «الاستشهادي» باعتباره بطلاً لا مجرد مقاتل. هذا التوظيف يعزز من قدرة التنظيم على تسويق عملياته الانتحارية كأفعال بطولية، ويمنحه فرصة لزيادة معدلات التجنيد، خاصة بين الشباب المهمش أو الساخط على أوضاعه السياسية والاجتماعية. بذلك يتحول الخطاب إلى أداة لاستقطاب فئات جديدة ممن يرون في التضحية بالنفس وسيلة للانتقام أو التعبير عن غضبهم.
أما على المستوى الدولي، فإن هذا النوع من الخطاب يسهم بشكل مباشر في تغذية موجات «الإرهاب العابر للحدود». إذ يعمد إلى رفع الصراع من كونه نزاعاً محلياً محدوداً إلى «معركة كونية» بين معسكرين متصارعين، مما يشرعن التدخل العابر للحدود، ويفتح المجال أمام انتقال الأفكار والعمليات إلى مسارح جديدة. وبهذا يصبح أي نزاع محلي مادة قابلة للتدويل العقائدي الذي يجعل من كل ساحة صراع امتداداً لمشروع «الأمة» الذي يروج له التنظيم.
الجانب الأخطر يتمثل في استهداف الأفراد المتأثرين بهذا الخطاب في البيئات الغربية. فالافتتاحية بما تحمله من رمزية للشهادة وبطولة «الاستشهادي» تزرع بذور العنف لدى ما يُعرف بالذئاب المنفردة، أي أولئك الذين لا يرتبطون تنظيمياً بداعش ولكنهم يتبنون خطابه ويميلون إلى تقليد عملياته. هؤلاء يشكلون خطراً مضاعفاً لأنهم يتحركون بعيداً عن الرصد الأمني المباشر، وقد ينفذون هجمات فردية في العواصم الغربية استناداً إلى دوافع دينية–أيديولوجية تم شحنها بمثل هذه النصوص.
الرسائل المسكوت عنها
الافتتاحية تتعمد تجاهل الخسائر الميدانية التي مني بها التنظيم في أكثر من ساحة، سواء على مستوى فقدان مقاتلين أو انكماش مناطق النفوذ. فلا حديث عن الانشقاقات أو الانهيارات التي طالت صفوفه، ولا عن تراجع قدراته المالية واللوجستية. هذا الصمت المقصود يهدف إلى حماية صورة التنظيم من التشقق أمام أنصاره، وتثبيت الانطباع بأنه ما زال في موقع المبادرة، بينما الحقيقة على الأرض تكشف عكس ذلك تماماً.
الخطاب يركز حصراً على «أرواح المجاهدين» الذين يقدمهم كرموز للتضحية والفداء، لكنه يتجاهل تماماً معاناة المدنيين الذين يسقطون ضحايا لعملياته. فلا إشارة لضحايا التفجيرات أو الهجمات الانتحارية في الأسواق والأحياء السكنية، ولا أي اعتراف بالثمن الباهظ الذي يدفعه الأبرياء. هذا التجاهل يفضح انغلاق النص على رؤية أحادية تُقدِّس موت المقاتل وتلغي إنسانية الآخرين، ما يعكس البعد الدعائي الموجّه أكثر من كونه خطاباً واقعياً.
في متن الافتتاحية لا يترك التنظيم أي مساحة لطرح بدائل أو مقاربات أخرى لمفهوم «الجهاد». فالتضحية عنده لا تُترجم إلا بالقتال الدموي والعمليات الانتحارية، بينما تُغيب تماماً أشكال النضال السلمي أو السياسي أو حتى الاجتماعي. هذا الاحتكار للمفهوم يكشف إصرار التنظيم على تسييج أتباعه ضمن رؤية مغلقة، لا تسمح لهم بالتفكير خارج دائرة العنف، وتُبقي خياراتهم محصورة في الموت كسقف أعلى للانتماء.
النص يُقدّم صورة مثالية متماسكة عن وحدة الصف، لكنه يغضّ الطرف عن التوترات التي يعيشها التنظيم، سواء في منافسته مع القاعدة أو في علاقاته المتوترة مع فصائل جهادية أخرى. الواقع يشهد انقسامات وصراعات على النفوذ والمصادر والولاءات، لكن الخطاب يختار التعتيم عليها، كي لا تهتز صورة «الجماعة الصلبة» أمام قواعدها. هذا الإخفاء يعكس محاولة مستمرة لتغطية التصدعات الداخلية التي قد تهدد بقاء التنظيم ذاته.
البعد التاريخي
عند مراجعة تاريخ خطابات داعش، وأيضاً القاعدة قبله، يظهر بوضوح أن التركيز على مفهوم الشهادة يتصاعد دائماً في لحظات التراجع والهزائم الميدانية. فبدلاً من الحديث عن النصر العسكري أو الإنجازات الملموسة، يتحول الخطاب إلى التعويض الرمزي عبر رفع قيمة «الموت في سبيل الله». هذا النمط التكراري يُستخدم كآلية دفاعية لامتصاص الإحباط داخل الصفوف، وكأداة لإقناع الأتباع بأن الخسائر ليست نهاية، بل مجرد عبور إلى مرتبة أعلى من الفضل الأخروي.
الخطاب الحالي لا يقدم جديداً بقدر ما يعيد استدعاء مرويات قديمة من التراث الإسلامي، من أقوال العلماء الكبار إلى قصص الغزوات الأولى، ثم يسقطها بشكل انتقائي على واقعه الخاص. لكن هذه الاستعادة لا تراعي الفوارق التاريخية والاجتماعية، بل تُستخدم لتبرير ممارسات التنظيم وتغليفها بمظهر الشرعية. وبهذا، يَظهر الخطاب كحلقة متكررة من الاستعارة التاريخية، أكثر من كونه اجتهاداً أصيلاً أو قراءة متجددة للنصوص.
من خلال هذه الاستعادة المتكررة، يحافظ التنظيم على «أسطورة الاستشهادي» بوصفها المورد الدعائي الأهم الذي يمنحه القدرة على البقاء، حتى عندما تتقلص موارده وقدراته على الأرض. فبينما ينكشف الواقع الميداني على انكسارات وتفتت، يعمل الخطاب على ترسيخ استمرارية رمزية تمنح الأتباع شعوراً بالتماسك والانتماء إلى مسار ممتد عبر التاريخ. وهنا يصبح الماضي أداة لتسكين الحاضر، بدل أن يكون مدخلاً لفهمه أو تجاوزه.
الوظيفة النفسية للخطاب
النص يعمل كآلية لطمأنة المقاتلين الذين يواجهون هاجس الموت في كل معركة. فهو يقدم صورة مطمئنة عن النهاية، لا باعتبارها فناءً أو خسارة، بل كبوابة إلى حياة أبدية في الجنة. هذه الصورة الرمزية تحوّل الخوف الطبيعي من الموت إلى حالة انتظار إيجابية، تجعل المقاتل يتعامل مع فكرة الاستشهاد كحدث مبهج يستحق التضحية، لا كخطر وجودي يهدد حياته.
الهزائم الميدانية عادة ما تترك آثاراً نفسية سلبية داخل التنظيم، من فقدان الثقة بالقيادة إلى تنامي الرغبة في الانسحاب أو الفرار. لذلك يُكثف النص من جرعات "الوعود الأخروية"، ليقدّم الخسائر باعتبارها جزءاً من الامتحان الإلهي، ويعيد صياغتها كخطوة على طريق النصر المعنوي. بهذه الطريقة، تتحول الهزيمة العسكرية إلى رصيد روحي يعزز الإصرار بدلاً من أن يولّد الانكسار.
من خلال هذا الخطاب، يسعى التنظيم إلى إنتاج حالة من التماسك النفسي الجمعي، بحيث يشعر كل مقاتل أنه جزء من منظومة أكبر لا تقاس إنجازاتها بالنتائج الأرضية، بل بالوعود الأخروية. هذا الإطار يُبقي الأفراد داخل دائرة الولاء، ويحول دون انهيارهم النفسي أو خروجهم عن الصف. فالخطاب لا يكتفي بتسكين القلق الفردي، بل يربطه ببنية جماعية تجعل الأتباع أسرى لفكرة أن الخلاص لا يتحقق إلا عبر الاستمرار في القتال حتى الموت.
الاستراتيجية الإعلامية لداعش
تُعد صحيفة النبأ إحدى أهم أدوات داعش الإعلامية، حيث تحرص على الصدور بشكل أسبوعي منتظم، بما يجعلها منبراً ثابتاً لضخ الرسائل الدعائية. هذا الانتظام لا يعكس مجرد التزام صحفي، بل يمثل جزءاً من استراتيجية مدروسة تهدف إلى إبقاء خطاب التنظيم حاضراً باستمرار في وعي أنصاره ومتابعيه. فمن خلال النبأ، يضمن التنظيم تكرار رسائله وصياغتها في قوالب جديدة، دون أن يفقد خطه الأيديولوجي العام.
الافتتاحية في كل عدد ليست مجرد مقالة افتتاحية بالمعنى الصحفي التقليدي، بل تقوم بوظيفة خطابية تشبه «خطبة الجمعة». فهي الموجه الأيديولوجي الأساسي الذي يضع الإطار العام لبقية مواد العدد، ويرسم معالم الخطاب الأسبوعي للتنظيم. من خلالها، يتم تثبيت العقيدة القتالية، وتقديم التوجيهات المعنوية، وصياغة المواقف تجاه المستجدات السياسية والعسكرية، ما يجعلها النص الأبرز والأكثر تأثيراً في الصحيفة.
الاعتماد على أسلوب الوعظ في هذه الافتتاحيات يكشف البنية البلاغية التي يقوم عليها خطاب داعش الإعلامي. فهي لا تُقدَّم كتحليل سياسي أو عسكري، بل كلغة دينية وعاطفية، تعيد إنتاج صورة «المنبر الدعوي» في ثوب إعلامي حديث. هذا المزج بين قداسة الخطبة التقليدية وأدوات الإعلام المعاصر يعزز سلطة النص، ويمنحه شرعية مضاعفة بوصفه صوتاً يوجّه الأتباع روحياً وعقائدياً في الوقت نفسه.
البعد الاجتماعي
الخطاب الدعائي لداعش يوظّف مفهوم الشهادة كـ«غاية عظيمة» لاصطياد الفئات الشابة، خصوصاً أولئك الذين يشعرون بالاغتراب أو انعدام القيمة في مجتمعاتهم. فهو يمنحهم هوية جاهزة ومعنى لحياتهم، ويعدهم بمكانة رفيعة تتجاوز حدود الفقر والتهميش الذي يعيشونه. بهذه الطريقة يتحول الشاب من فرد مجهول في محيطه إلى «بطل استشهادي» في سردية التنظيم.
في البيئات التي تعاني من الفقر والبطالة وانعدام الفرص، يقدم الخطاب فكرة الموت في صفوف التنظيم كخيار بديل، لا باعتباره خسارة، بل كطريق مختصر لتحقيق المجد الأخروي. هنا يصبح الانخراط في التنظيم محاولة للهروب من واقع مسدود الأفق، حيث يغدو «الاستشهاد» بديلاً عن العمل والتعليم وتحقيق الذات، في عملية استثمار مباشرة في الأزمات الاجتماعية.
خطورة هذا الخطاب لا تقف عند حدود الفرد المنخرط، بل تمتد لتطال المجتمعات المحلية نفسها. فحين يتحول الموت إلى حل بديل للفقر والحرمان، تُفتح أبواب متجددة للتجنيد العنيف وتستمر دوامة العنف. النتيجة أن المجتمعات التي تعاني أصلاً من هشاشة اقتصادية واجتماعية، تجد نفسها أمام مزيد من التفكك بفعل استنزاف شبابها في مشاريع دموية، ما يعمّق أزماتها بدلاً من معالجتها.
التأثير على صورة الإسلام
خطاب داعش كما يظهر في افتتاحيات النبأ يقدّم نفسه باعتباره الصوت الأصيل للإسلام، فيستند إلى نصوص قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال علماء كبار ليُشرعن مشروعه الدموي. هذا الاحتكار يخلق صورة مشوهة مفادها أن الدين لا يُفهم إلا من زاوية العنف والتفجير والقتال، وهو ما يمهّد لتقديم الإسلام في الوعي العالمي كدين لا يعرف إلا لغة الدم.
حين يربط الخطاب بين الإيمان الحقيقي وبين الموت في المعركة، فإنه يُلغي كل صور الرحمة والعدل والتعايش التي تزخر بها النصوص الإسلامية. النتيجة أن المتلقي غير المسلم يرى في هذه السردية تمثيلاً مباشراً للإسلام ذاته، فيختزل الدين في صورة العنف. هذا الاختزال يغذي سرديات الإسلاموفوبيا التي تنشط في الغرب، حيث تستثمر هذه المواد الدعائية لإثبات مزاعمها عن «الخطر الإسلامي».
على المستوى الدولي، يسهم هذا الخطاب في مفاقمة التوتر بين المسلمين وغير المسلمين. فبدلاً من أن يكون المسلمون في الغرب جزءاً طبيعياً من نسيج مجتمعاتهم، يصبحون أسرى لصورة سلبية رُسمت لهم بفضل دعاية داعش. بذلك لا يخدم التنظيم سوى أجندة التيارات اليمينية المتطرفة، التي تجد في مثل هذه النصوص مادة لتبرير سياساتها الإقصائية ضد الجاليات المسلمة، مما يضاعف حالة الاستقطاب العالمي.
بقاء دعائي
تؤكد قراءة افتتاحية النبأ «٥١١» أن داعش لا يزال يستخدم مفهوم «الشهادة» كأداة مركزية في بقائه الدعائي، حتى وهو يتعرض لأقسى موجات الانكسار الميداني. فالنص ليس محاولة للتجديد الفكري أو لتقديم قراءة دينية معمقة، بل هو إعادة تدوير لخطاب قديم قائم على إقصاء البدائل وحصر معنى التضحية في الموت العنيف.
يتضح أن الافتتاحية تمارس وظيفة مزدوجة: فهي من ناحية تُسكت أي أصوات داخلية ناقدة عبر ربط الإيمان بالاستشهاد حصراً، ومن ناحية أخرى تحافظ على صورة وهمية للتنظيم كقوة لا تهزم، عبر تحويل الخسائر الميدانية إلى رصيد رمزي. لكن هذا التوظيف ينكشف عند التدقيق، حيث يفضح غياب البعد الإنساني والتاريخي والواقعي، ويكشف عن أزمة بنيوية في قدرة التنظيم على إنتاج خطاب جديد.
في النهاية، فإن خطاب «صناعة الشهادة» لا يخدم سوى إطالة عمر العنف وإدامة الدائرة المفرغة بين الإرهاب ومكافحته. فهو يغذي التطرف في الداخل، يعمّق الانقسام في الإقليم، ويعطي الذريعة لخصوم الإسلام في الخارج. وبذلك يصبح النص أداة سياسية أكثر من كونه بياناً دينياً، وسلاحاً دعائياً يهدف إلى حماية التنظيم من الانهيار الرمزي، حتى وهو يفقد مواقعه على الأرض.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق لحظة فارقة.. سوريا «الشرع».. الوجه الآخر لتبرير مصافحة إسرائيل
التالى "إي تاكس" تحتفي بنجاح وزارة المالية في "التسهيلات الضريبية"