بعد ضربة إيران ووكيلها حزب الله فى سوريا، تُدشن القيادة الجديدة فى دمشق مرحلةً مختلفةً نوعيًا فى علاقاتها مع جيرانها - وخاصةً إسرائيل - فى ظل سعيها لإعادة تموضعها إقليميًا ودوليًا.
يأتى ذلك وسط تقارير حول اتفاقية أمنية برعاية أمريكية فى ٢٥ سبتمبر/أيلول، عقب خطاب الرئيس السورى أحمد الشرع فى الأمم المتحدة، وتستهدف تخفيف التوتر مع إسرائيل، وهنا تثور تساؤلات مشروعة حول السياسة السورية وهل تصبح بوابة "غير شرعية" لتمرير المشروع الأمريكى فى المنطقة؟ وكيف قادت التحولات الرئيس السورى للقول بأن سوريا وإسرائيل تواجهان عدوا مشتركا فى وقت دكّت فيه تل أبيب محيط القصر الرئاسى فى دمشق واستولت على نحو ثلث الأراضى بالقوة الغاشمة؟!
ما يضفى المزيد من القلق أن تحولات السياسة السورية بقيادة الشرع تأتى فى وقت تشتعل فيه المنطقة بحرب تشنها إسرائيل على جبهات عدة فلسطينية وسورية ولبنانية ويمنية. وكمحاولة لتفسير المشهد، كتبت راغدة درغام مديرة معهد بيروت فى مقال منشور تحت عنوان "لماذا تُبرر سوريا الشرع حوارها مع إسرائيل؟"، أن دمشق اليوم تشعر بالثقة للتعامل مع إسرائيل وتفضل نهجا براجماتيا يتفوق على أولويات سوريا نفسها، وعلى الرغم من الهجوم العسكرى الإسرائيلي، ويؤكد ذلك لقاء وزير الخارجية السورى أسعد الشيبانى ووفد إسرائيلى مؤخرا لمناقشة "خفض التصعيد، وعدم التدخل فى الشئون الداخلية لسوريا، والتوصل إلى تفاهمات لدعم الاستقرار الإقليمي، ومراقبة وقف إطلاق النار فى محافظة السويداء".
من جهة أخرى، لم تفرض حكومة السيد الشرع سيطرتها الكاملة على الوضع الداخلى بعد، ولا تزال المخاوف قائمة من أن الجماعات المتطرفة لا تزال قادرة على اجتياح البلاد وتمزيق نسيجها الاجتماعى الحيوي، وبرغم تأكيد الرئيس السورى على رفض التقسيم، وكذلك تصريحه بأن إعادة توحيد بلاده بعد سنوات من الحرب "لا ينبغى أن يأتى من خلال سفك الدماء والقوة العسكرية"، لكن هذه التطمينات لا تجد على الأرض ما يدعمها.
يلعب توم باراك، السفير الأمريكى لدى تركيا والمبعوث إلى سوريا، دورًا مباشرًا فى التصدى للانتهاكات الموثقة ضد الطائفة الدرزية فى المحافظة الجنوبية السورية، ومراقبة وقف إطلاق النار فى المنطقة، وبالتأكيد يلعب دور فى توجيه سوريا نحو سياسة براجماتية مع إسرائيل، ونحو ترسيم الحدود وبناء علامات متوازنة مع لبنان بدون هيمنة دمشق على بيروت عبر حزب الله.
أشباح سوريا الجديدة
يعمل أحمد الشرع الزعيم السورى الجديد بالاعتماد على التحالفات الإقليمية والدعم الأمريكى للصمود أمام معارضيه، وخاصة الأكراد والدروز. من جهة أخرى يكافح القائد السابق لهيئة تحرير الشام، بجماعة ظلت متقدمة حتى سقوط الأسد، ويعتقد قادتها أن من حقهم تصدر المشهد الجديد وبسط هيمنتهم وبخاصة فى محافظة السويداء الصغيرة، الواقعة على الحدود مع الأردن، والثانية هى المنطقة الشمالية الشرقية الأكبر والأكثر ثراءً من البلاد، بالقرب من العراق.
لقد أُحبط هجوم للسيطرة على محافظة السويداء، ذات الأغلبية الدرزية، الشهر الماضي. فى غضون ذلك، لم ينجح مزيج من المفاوضات والقوة فى إخراج قوات سوريا الديمقراطية، ذات الأغلبية الكردية، من الشمال الشرقي، مستودع السلع والطاقة فى سوريا. ورغم انخراط السيد الشرع فى تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة، إلا أن الأكراد احتفظوا بدعم أمريكى كافٍ لمقاومة سيطرة السلطات المركزية الجديدة، وبالتالى فإن نجاح الخطوة الجديدة للعملة السورية سيعتمد على "السياسة أكثر من الأوراق النقدية الجديدة".
يقول البعض إن السيد الشرع يأمل أيضًا فى إقناع واشنطن بنقل بعض القواعد العسكرية التى تملكها على الأقل فى منطقة قوات سوريا الديمقراطية فى الشمال الشرقى إلى مناطق حكومية فى الداخل، مما يعزز التحالف الناشئ مع واشنطن، إضافة لتحالفه مع تركيا وهى الحليف الرئيسى غير العربى لسوريا الجديدة بقيادة الشرع، وهدفها إنهاء أى تطلعات كردية سورية للحكم الذاتي.
فى المقابل رفعت واشنطن العقوبات عن سوريا وانهالت تصريحات المسئولين عن الشرع قائلة: "لقد أثبت نفسه كشريك موثوق فى مكافحة الإرهاب"، مشيدين بالتعاون الأمنى المتزايد بين السلطات الجديدة وواشنطن. وتصدرت أنباء بأن حل جماعة الإخوان المسلمين السورية يمكن أن يصبح بين أجندة الأهداف الأمريكية فى الفترة المقبلة.
تغيير وجه الجهادية
فى كتاب جديد باسم "التحوّل على يد الشعب.. كيف غير الشرع وجه الجهادية؟" للمؤلفين باتريك هاينى وجيروم دريفون، وصورة غلاف تحمل صورة الشرع وتختبر تحول النزعة الجهادية داخله، يقول دريفون وهو أحد المؤلفين السويسريين وفق حوار مع صحيفة ايرلندية، أن الشرع أصبح شخصية براجماتية برغم التزامه الديني، ويحكمه العقل أكثر من الأيديولوجيا.
لقد ولد الشرع فى السعودية عام ١٩٨٢ لعائلة سورية نازحة من الجولان، وقاتل فى العراق ضد الاحتلال الأمريكى عام ٢٠٠٣، واعتُقل فى أبو غريب وكامب بوكا لخمس سنوات، حيث كتب مخططًا من ٥٠ صفحة حول تصدير "الجهاد" إلى سوريا وقبل أن يصعد لقيادة النصرة ويؤسس جبهة عريضة عام ٢٠١١، ويقود عمليات اختطاف أجانب جنت ملايين الدولارات كفدية ويفرض تطبيقا صارما للشريعة بمنظور القاعدة فى إدلب، وينشق عن داعش بعد خلاف مع البغدادى عام ٢٠١٣، ثم عن القاعدة عام ٢٠١٦. بعد تلك الرحلة الحافلة فى صفوف الجهادية يرى المؤلفان أن أحمد الشرع يعى أن بقاءه تحت مظلة القاعدة يعنى أنه لن يتعامل معه أحد فى المجتمع الدولي".
وبحسب الكتاب فإن استراتيجية الحكم الجديد للشرع تقوم على تقنيات إدارية، علاقات مع تركيا، تخفيف المظاهر الجهادية، قمع المعارضة المسلحة الداخلية أحيانًا، لكنه فى الوقت ذاته يؤكد أن تحول هيئة تحرير الشام ليس أيديولوجيا حقيقيا بقدر ما هو ضرورة عملية، وبالتالى فيمكننا أن نرى فى الشوارع مظاهر لا تنتمى لخطاب الطمأنة لوحدة سوريا وروح المواطنة الذى يصدره الشرع والذى أعلن فى أكثر من حوار صحفى أن الشارع منهك من الحرب وهو شخصيا كذلك ودولة سوريا تريد البناء والسلام لا الحرب.
يرى مؤلفا الكتاب أن الشرع وحكومته تسعى لتطبيق النظام بشكل مرن، مع التحكم فى الأرض بقوة، وتقديم نزعة محافظة غير متشددة سلفيا وبعيدا عن سياسات سالفه الأسد بل نقيضة له. فى الوقت الذى يسعى لطمأنة العالم بعد تنامى الخوف من العنف الطائفى والدماء المسالة فى مناطق السويداء وبعد الصرخات من انتهاكات حقوق الإنسان المروعة على يد محسوبين على تحرير الشام وكان آخرها جريمة المستشفى العام.
الكتاب يحذر من موجة تطرف جديدة تجتاح سوريا بقيادة الشرع ولكنها لا تحركها الأيديولوجيا وإنما روح الانتقام الطائفية. وبالتالى فإن ذلك قد يعنى استبداد بغطاء دينى بدلا من القومى السابق.
يرى وائل السواح فى تحليله "تقارب الشرع وإسرائيل" والمنشور فى المرصد السورى إلى أن هذا التحول الجريء لقائد جهادى يتصالح فجأة مع إسرائيل، هو محض مخاطرة جيوسياسية وتعكس دخول سوريا فى مسار جديد بعيدا عن المقاومة. لا تزال إدارة الشرع تدرك أن شرعيتها المحلية هشة، بالنظر إلى التاريخ المتطرف للكثيرين فى قيادتها، لذا يمثل الاعتراف الدولى أداة حاسمة لتشكيل قبولها وإعادة الاعتراف بها، وبرغم محدودية بنيتها التحتية وقيودها المالية انقساماتها الطائفية، وبالطبع فإن إسرائيل هى بوابة صك الاعتراف من الغرب ولهذا فقد سارعت سوريا الجديدة إليها حتى وإن كانت تتعرض مباشرة للتهديد من تل أبيب!
