أخبار عاجلة

الخطر ما زال قائمًا.. داعش بين الضربات المتلاحقة وإعادة التموضع

الخطر ما زال قائمًا.. داعش بين الضربات المتلاحقة وإعادة التموضع
الخطر ما زال قائمًا.. داعش بين الضربات المتلاحقة وإعادة التموضع
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

بعد مرور أكثر من ست سنوات على إعلان سقوط «الخلافة» المكانية لتنظيم داعش فى العراق وسوريا، يعود اسم التنظيم مجدداً إلى واجهة الأحداث الأمنية. ورغم أن عامى 2017 و2019 مثّلا محطتان بارزتان فى إنهاء الوجود العسكرى المعلن للتنظيم، إلا أن التطورات الأخيرة أثبتت أن الفكرة لم تُستأصل جذرياً، وأن التنظيم ما زال قادراً على التحرك فى جيوب متفرقة وبيئات رخوة تنتشر بين شمال سوريا وشرقها وغرب العراق.
الخبر الأول الذى هز المشهد جاء من مدينة الباب شرق حلب، حيث نفذت قوات التحالف الدولى بالتعاون مع وحدات مكافحة الإرهاب التابعة لقوات سوريا الديمقراطية عملية إنزال جوى نوعية استهدفت خلية من داعش. اللافت أن العملية جرت فى منطقة خاضعة لسيطرة «الجيش الوطني» المدعوم من تركيا، ما يعكس خطورة تسلل التنظيم إلى مناطق معقدة النفوذ وتعدد السيطرة. المعلومات أكدت أن الخلية ضمت أميراً عراقياً وثلاثة عناصر آخرين كانوا يعملون على تنشيط الخلايا النائمة فى الشمال السوري.
بعدها بأيام قليلة، شنت القوات الأمريكية عملية نوعية فى ريف إدلب شمال غرب سوريا، استهدفت قيادياً بارزاً فى التنظيم وُصف بأنه "هدف عالى القيمة" ومرشح لتولى موقع قيادى مؤثر داخل داعش فى سوريا. وفق التسريبات، الرجل كان عراقياً ومتزوجاً من فرنسية، ما يعكس البعد العابر للحدود فى بنية التنظيم. العملية التى شاركت فيها طائرات مسيّرة ومروحيات، وأحاطتها قوات محلية بسياج أمني، انتهت بمقتل المستهدف خلال محاولته الفرار.
وفى موازاة هذه الضربات، نفذ التنظيم هجوماً انتحارياً على حاجز أمنى فى مدينة الميادين بمحافظة دير الزور شرق سوريا. الهجوم، الذى أسفر عن مقتل عنصر أمنى سوري، أعاد إلى الأذهان التكتيكات القديمة التى ارتبطت بوحشية داعش فى سنوات تمدده الأولى. عودة الانتحاريين إلى المشهد بعد فترة من الكمون تمثل رسالة مزدوجة: أولاً أن التنظيم ما زال قادراً على تجنيد مقاتلين مستعدين للموت، وثانياً أن حضوره لا يقتصر على استهداف قادة أو جنود، بل يمتد ليطال الاستقرار الداخلى والمجتمع المدني.
المشهد المتكون من هذه العمليات الثلاث يعكس دينامية متجددة: من جهة، هناك ملاحقة دقيقة من التحالف الدولى للقادة والعناصر الفاعلة داخل التنظيم، ومن جهة أخرى، يحاول داعش الرد بعمليات نوعية – حتى لو محدودة – لإثبات وجوده. هذا التوازن السلبى يثبت أن التنظيم لم يعد يمتلك القدرة على السيطرة المكانية، لكنه فى المقابل لم يفقد قدرته على التخريب والإرباك وإعادة إنتاج نفسه عبر الخلايا السرية والعمليات الانتحارية.
تجمع هذه الوقائع أن خطر داعش لا يزال قائماً رغم الضربات المتلاحقة. فالتنظيم اليوم ليس هو "الدولة" التى أعلنها عام ٢٠١٤، بل شبكة مرنة تعتمد على القادة المتوارين، الخلايا الصغيرة، والخبرات المتنقلة بين العراق وسوريا. وبينما يراه البعض تنظيماً منهكاً يعيش آخر أنفاسه، تكشف الوقائع أن التنظيم يراكم عوامل عودة محتملة، خصوصاً فى ظل هشاشة الأوضاع الأمنية والسياسية فى كل من سوريا والعراق.
دلالات العمليات الأخيرة
رغم الضربات الجوية والعمليات الخاصة التى تنفذها قوات التحالف الدولي، يتضح أن تنظيم داعش لم يُمحَ من الخريطة الأمنية فى سوريا. استهداف خلية فى مدينة الباب، وقيادى فى إدلب، إلى جانب تنفيذ عملية انتحارية فى الميادين، تكشف أن التنظيم ما زال يمتلك القدرة على العمل فى ثلاث بيئات متباينة جغرافياً وأمنياً. هذا التمدد الموزع يوضح أن التنظيم لا يعتمد على مركز واحد، بل على جيوب متناثرة تضمن له البقاء حتى فى أكثر الظروف قسوة.
الملاحظ أن معظم القادة الذين جرى استهدافهم أو الحديث عنهم فى العمليات الأخيرة هم من العراقيين. هذه الحقيقة ليست مجرد تفصيل، بل تعكس الطبيعة التاريخية للتنظيم الذى نشأ فى العراق عام ٢٠٠٣ وتوسع لاحقاً فى سوريا. استمرار الدور القيادى للعراقيين يؤكد أن التنظيم يحافظ على "نخبة" من الكوادر القادرة على إعادة البناء والتنظيم، وهو ما يجعل الضربات ضدهم استراتيجية لكنها غير كافية للقضاء على الشبكة بالكامل.
المتابع يلحظ أن التحالف يركز على "أهداف عالية القيمة"، وهو تعبير يطلق عادة على شخصيات محورية فى إعادة تشكيل التنظيم. هذا يعكس أن داعش يعمل بصمت على إعادة ترتيب صفوفه بعد الضربات المتتالية التى فقد خلالها زعماء كباراً مثل البغدادى والقرشي. محاولات تعقب قيادات جديدة تشير إلى أن هناك عملية هيكلة داخلية تسعى لإنتاج قيادة بديلة تكون أقل ظهوراً وأكثر قدرة على المناورة.
ما بين الإنزال الجوى فى الباب، وضربات الطائرات المسيرة فى إدلب، والهجوم الانتحارى فى الميادين، يبرز أن داعش يتعامل مع المشهد بأسلوب تكتيكى متنوع. فهو يستخدم الخلايا النائمة فى المدن، ويعتمد على الانتحاريين فى الأرياف، ويستفيد من التضاريس الصعبة فى البادية. هذا التنوع يجعله خصماً مرناً قادراً على إرباك القوات المحلية والدولية، ويمنحه مساحة حركة واسعة مقارنة بحركات مسلحة أكثر تقليدية.
من أبرز ملامح هذه العمليات أن التنظيم يحرص على توقيتها ومكانها بما يفاجئ خصومه. فظهور خلية فى مدينة الباب الخاضعة لنفوذ الجيش الوطنى الموالى لتركيا، أو تنفيذ عملية فى عمق الميادين التى تخضع لإجراءات أمنية مشددة، يعنى أن التنظيم يتعمد ضرب مناطق يعتبرها الخصوم "آمنة". هذا الاستثمار فى عنصر المفاجأة يمنحه زخماً إعلامياً ويكرس صورة "الخصم الذى لا يُقهر بسهولة".
مجمل العمليات الأخيرة توحى بأن داعش، وإن لم يعد قادراً على إعلان "دولة" أو السيطرة على أرض واسعة، فإنه يسعى لتثبيت معادلة بسيطة: "نحن ما زلنا هنا". عبر عمليات متفرقة ووجوه قيادية جديدة، يبعث التنظيم برسالة واضحة للداخل والخارج مفادها أن مشروعه لم ينته، بل يتخذ أشكالاً جديدة تناسب المرحلة. وهذه الرسالة بحد ذاتها تمثل تحدياً كبيراً للقوى المحلية والدولية، لأنها تعنى أن المعركة مع داعش ما زالت فى منتصف الطريق وليست فى نهايتها.
أسباب عودة داعش للمشهد
رغم أن تنظيم داعش تلقى سلسلة من الضربات الموجعة التى أطاحت بوجوده العسكرى العلنى منذ عام ٢٠١٩، فإن الوقائع الأخيرة فى سوريا والعراق تشير إلى أنه يستعيد زخماً مقلقاً. هذه العودة لا ترتبط فقط بعوامل داخلية فى التنظيم، وإنما تغذيها بيئة إقليمية هشة تتسم بالفراغ السياسى والأمني، وتناقض المصالح بين القوى الفاعلة، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية العميقة التى يعيشها سكان المنطقة. يمكن رصد أبرز الأسباب التى ساعدت التنظيم على إعادة التموضع فى أربع دوائر رئيسية: الفراغ الأمنى والسياسي، التناقضات الإقليمية، مرونته التنظيمية، وأخيراً الاستثمار فى خطاب المظلومية والاقتصاد الأسود.
أولاً: الفراغ الأمنى والسياسي
منذ سقوط نظام بشار الأسد أواخر عام ٢٠٢٤، دخلت سوريا مرحلة انتقالية غير واضحة المعالم. ورغم تشكيل سلطات جديدة تسعى إلى فرض الاستقرار، إلا أن ضعف المؤسسات، وانقسام السيطرة بين قوى متعددة، جعل مساحات واسعة خارج السيطرة الصارمة. هذه المناطق، الممتدة من البادية السورية إلى أطراف المدن الحدودية، تشكّل بيئة نموذجية للتنظيمات الجهادية التى تجيد استغلال "المناطق الرمادية".
إلى جانب ذلك، فإن التغير السريع فى هياكل الحكم المحلية وعدم رسوخ الأجهزة الأمنية سمح بخلق فراغ أمنى واسع. فى مثل هذه البيئات، لا تحتاج خلايا داعش إلى قوة كبيرة للظهور، بل يكفيها الاعتماد على أفراد قليلين يتحركون بحرية نسبية، ما يعيد للتنظيم القدرة على المبادرة وإرباك القوى المحلية والدولية على حد سواء.
ثانياً: التناقضات بين القوى المحلية والإقليمية
المشهد السورى يتسم بتعدد اللاعبين الميدانيين: قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكياً، الجيش الوطنى الموالى لتركيا، قوات النظام، إضافة إلى فصائل محلية أخرى. هذه التناقضات ليست مجرد اختلاف فى الولاءات، بل تصل إلى اشتباكات مباشرة وصراع على النفوذ والموارد.
داعش يستثمر هذه الانقسامات عبر التسلل إلى مناطق التماس أو استغلال لحظات الفراغ التى تتركها الصراعات الجانبية. فبينما تنشغل القوى المحلية فى صراعها على السلطة، يجد التنظيم متسعاً للتجنيد، التموضع، وتنفيذ هجمات نوعية. وهو ما يفسر ظهوره فى مناطق متباينة مثل الباب وإدلب ودير الزور، رغم وجود قوى مختلفة مسيطرة هناك.
ثالثاً: المرونة التنظيمية
من الدروس الكبرى التى استخلصها داعش بعد هزيمته عام ٢٠١٩ أنه لم يعد قادراً على إدارة "خلافة مكانية" تفرض سيطرة مباشرة على مدن وأراضٍ واسعة. لذلك أعاد تشكيل نفسه وفق مبدأ اللامركزية، حيث تنتشر خلايا صغيرة مستقلة لا تحتاج إلى قيادة مركزية ظاهرة. هذه البنية المرنة تجعل من الصعب على أجهزة الاستخبارات تتبعها أو القضاء عليها دفعة واحدة.
إضافة إلى ذلك، التنظيم طور أساليب تواصل بديلة تعتمد على قنوات سرية عبر الإنترنت أو المراسلين الميدانيين، مما يمنحه القدرة على تنسيق الحد الأدنى من العمليات دون الكشف عن مراكزه. وبهذا، يتحول إلى "شبح أمني" قادر على ضرب أى هدف، دون أن يترك بصمة واضحة، وهو ما يفسر عمليات متفرقة بين الشمال السورى وشرقه خلال أسابيع قليلة.
رابعاً: المظلومية والاقتصاد الأسود
البيئة الاقتصادية والاجتماعية فى سوريا والعراق اليوم هى أرض خصبة لإعادة إنتاج التنظيم. انهيار الأوضاع المعيشية، تفشى البطالة، وانعدام الأفق السياسي، كلها عوامل تغذى شعوراً باليأس لدى فئات واسعة من السكان، خصوصاً الشباب. داعش يقدّم نفسه فى هذه السياقات كـ"ملاذ" يوفر المال والحماية والانتماء، وهو ما يمنحه قدرة تجنيد متجددة.
فى الوقت نفسه، يستثمر التنظيم فى الاقتصاد الأسود: تهريب النفط من جيوب البادية، تجارة السلاح، وحتى المخدرات. هذه الشبكات التمويلية تمنحه الاستقلالية عن الدعم الخارجي، وتخلق روابط مع شبكات إجرامية محلية ودولية. ومع كل أزمة اقتصادية تتفاقم، يزداد وزن هذه الموارد، ويتحول التنظيم إلى لاعب اقتصادى – أمنى قادر على الاستمرار رغم الضغوط العسكرية.
استراتيجية داعش الحالية
بعد مرور أكثر من ست سنوات على سقوط "الخلافة المكانية"، لم يختف تنظيم داعش من المشهد، بل انتقل إلى طور جديد من العمل السرى والتكتيكات المرنة. الأحداث الأخيرة فى الباب، إدلب، ودير الزور تكشف أن التنظيم لم يعد يسعى إلى السيطرة المباشرة على المدن أو إعلان إدارة علنية، بل بات يركز على استراتيجية طويلة المدى قوامها إعادة بناء هياكل القيادة، التمركز فى البادية، إرباك الخصوم بهجمات متفرقة، وتعزيز صلاته مع فروعه الخارجية. هذه الاستراتيجية تقوم على فكرة "البقاء والتمدّد"، ولو بشكل منخفض الوتيرة، إلى أن تحين لحظة تسمح له بالعودة إلى واجهة الصراع.
أولاً: إعادة بناء القيادة
تشير العمليات الأخيرة إلى أن قادة عراقيين ما زالوا يحتلون مواقع محورية فى التنظيم داخل سوريا. هؤلاء القادة لا يكتفون بإدارة العمليات الميدانية، بل يسعون إلى إعادة لملمة الشتات التنظيمى وتعيين خليفة محلى قادر على التواصل مع مختلف الخلايا. الهدف الأساسى هنا هو إيجاد قيادة متماسكة، ولو خلف الكواليس، تستطيع توجيه العمليات وضبط إيقاع العمل العسكرى والدعوى للتنظيم.
هذا المسعى يعكس إدراك "داعش" أن غياب القيادة يهدد بقاءه أكثر من الضربات العسكرية. ولذلك، فإن التنظيم يركز على تعويض خسائره المتكررة عبر الإصرار على "خط خلافة بديل" يضم شخصيات عراقية وسورية. عمليات الاغتيال التى تنفذها القوات الأمريكية والتحالف تستهدف هؤلاء القادة تحديداً، لأنها تمثل العمود الفقرى لإعادة بناء التنظيم.
ثانياً: الاعتماد على البادية السورية
البادية السورية، الممتدة بين ريف حمص ودير الزور والرقة، تحولت إلى الملاذ الآمن الأبرز للتنظيم. طبيعة التضاريس الصحراوية الصعبة وضعف السيطرة الأمنية هناك يتيحان لعناصر داعش حرية حركة نسبية، سواء لإعادة الانتشار أو للتدريب والتخفى عن أعين الرصد الجوي. فى هذه المناطق، يجد التنظيم مساحات شاسعة لإقامة مخابئ مؤقتة وتخزين السلاح.
كما أن البادية تمثل نقطة وصل استراتيجية، تربط بين العراق والداخل السوري، وتسمح للتنظيم بالحفاظ على خطوط إمداد مرنة. هذا يجعلها ركيزة أساسية فى استراتيجيته الحالية، إذ تتحول إلى قاعدة انطلاق نحو المدن والبلدات عندما يريد تنفيذ هجمات خاطفة ثم العودة سريعاً إلى مناطق يصعب ملاحقته فيها.
ثالثاً: عمليات الإرباك والإنهاك
بدلاً من المعارك الكبيرة التى خسرها سابقاً، يعتمد "داعش" اليوم على تكتيك الاستنزاف: هجمات صغيرة، عمليات انتحارية محدودة، واغتيالات تستهدف الأمن المحلى أو الشخصيات البارزة. الهدف هنا ليس السيطرة على الأرض، بل كسر صورة الاستقرار التى تحاول السلطات المحلية والتحالف الدولى ترسيخها.
هذه العمليات، رغم بساطتها، تحمل رسالة سياسية – إعلامية: أن التنظيم لم ينتهِ بعد. فهى تعيد بث الخوف فى الشارع، وتضغط على الأجهزة الأمنية لتبقى فى حالة استنفار دائم. وبهذا، يحقق التنظيم هدفين فى آن واحد: إظهار نفسه كقوة باقية، وإضعاف خصومه عبر إنهاكهم بتكاليف أمنية وعسكرية متواصلة.
رابعاً: التواصل مع الفروع الخارجية
استراتيجية "داعش" لم تعد محصورة فى سوريا والعراق. بل يسعى التنظيم إلى الحفاظ على علاقة حيوية مع فروعه المنتشرة فى أفريقيا وآسيا، مثل ولايات الساحل، نيجيريا، والصومال. هذا التواصل يمنحه شرعية "عالمية"، ويتيح له تبادل الخبرات وتنسيق العمليات ضمن مفهوم "المركز والأطراف".
بالنسبة للتنظيم، فإن أى انتكاسة فى سوريا والعراق يمكن تعويضها بإنجازات ميدانية فى أفريقيا أو جنوب آسيا، والعكس صحيح. هذا البعد الخارجى يجعل من "داعش" مشروعاً عابراً للحدود، لا يتوقف عند الهزائم المحلية. وهكذا، تبقى سوريا والعراق جزءاً من شبكة أوسع، لكنها تظل أيضاً مركزاً رمزياً يسعى التنظيم إلى الحفاظ على وجوده فيه بأى ثمن.
الخطورة القادمة
رغم الخسائر الفادحة التى تكبدها تنظيم داعش خلال السنوات الماضية، فإن المعطيات الميدانية الأخيرة تشير إلى أن التنظيم لا يزال يمتلك مقومات الاستمرار والتمدد. خطورة المشهد لا تنبع فقط من العمليات المنفذة على الأرض، بل من الأثر النفسى والسياسى لهذه العمليات، ومن القدرة المتبقية للتنظيم على التأثير فى المعادلات الأمنية محلياً وإقليمياً ودولياً. فى ظل هذا الواقع، تتوزع التهديدات القادمة على ثلاثة مستويات متداخلة: الداخل السورى والعراقي، الإقليم المحيط، والساحة الدولية.
أولاً: الخطر المحلي
على المستوى المحلى فى سوريا والعراق، فإن استمرار هجمات التنظيم – ولو كانت محدودة – يترك أثراً بالغاً فى ثقة السكان بالسلطات القائمة. كل عملية تفجير أو اغتيال أو هجوم انتحارى تُظهر ضعف الأجهزة الأمنية وعدم قدرتها على حماية المجتمع. هذا الإحساس بالعجز يعيد إنتاج دائرة الخوف، ويخلق حالة من عدم الاستقرار تعيق أى جهود لإعادة الإعمار أو المصالحة الوطنية.
إلى جانب ذلك، فإن استمرار الهجمات يفتح الباب أمام عودة بعض الحواضن الاجتماعية التى فقدها التنظيم فى السنوات الماضية. ففى بيئة يسودها الفقر والبطالة وانعدام الأمن، يصبح الانضمام إلى "داعش" أو التعاون معه خياراً مغرياً للبعض، سواء لأسباب مالية أو لأسباب تتعلق بالحماية فى مناطق تغيب فيها الدولة. بهذا المعنى، فإن خطورة التنظيم محلياً لا تقف عند حدود العمليات العسكرية، بل تمتد إلى إعادة بناء شبكات اجتماعية سرية توفر له الحماية والامتداد.
ثانياً: الخطر الإقليمي
إقليمياً، يشكل احتمال انتقال عناصر التنظيم من معاقله فى سوريا والعراق إلى الدول المجاورة تهديداً جدياً للأمن والاستقرار. الحدود الطويلة والمتداخلة مع دول مثل الأردن ولبنان وتركيا تتيح مساحات واسعة للتسلل والاختباء، خصوصاً فى ظل وجود ثغرات أمنية أو فراغات فى السيطرة. هذه التحركات قد تنقل الخطر إلى مناطق كانت حتى وقت قريب بعيدة عن دائرة الصراع.
كما أن وجود عناصر أجنبية ضمن التنظيم، وخبرة هؤلاء فى القتال والاختراق، يعنى أن أى تسرب عبر الحدود يمكن أن يتحول بسرعة إلى خلايا نائمة أو بؤر للتجنيد فى تلك الدول. وبهذا، لا يظل خطر "داعش" شأناً سورياً أو عراقياً فقط، بل يصبح عاملاً يهدد الأمن القومى لعدد من الدول الإقليمية، مع ما يحمله ذلك من تداعيات على الاستقرار السياسى والاقتصادى فى المنطقة.
ثالثاً: الخطر الدولي
على المستوى الدولي، فإن استمرار وجود قادة أجانب داخل التنظيم – من العراقيين إلى الفرنسيين وغيرهم – يعكس أن "داعش" ما يزال يحتفظ بوجهه العابر للحدود. هذا البعد الدولى يعنى أن التنظيم قادر على توجيه رسائل لأتباعه فى الغرب، وإعادة تفعيل ظاهرة "الذئاب المنفردة"، التى أثبتت خطورتها خلال العقد الماضى فى عواصم أوروبية عدة.
الأكثر خطورة أن قدرة التنظيم على البقاء فى سوريا والعراق تمنحه زخماً رمزياً فى أعين المتعاطفين حول العالم. فعندما يثبت أنه "لم يمت"، يفتح المجال أمام موجات جديدة من الدعاية الرقمية والتجنيد عبر الإنترنت، وهو ما قد يترجم إلى هجمات فردية أو جماعية فى أوروبا وأميركا أو حتى فى آسيا. هذه الديناميكية تجعل من "داعش" تهديداً لا يمكن محاصرته جغرافياً، بل يتطلب استجابة أمنية وفكرية عابرة للحدود.
الأخبار الأخيرة تؤكد أن القضاء على داعش عسكرياً لم يكن نهاية التنظيم، بل بداية لمرحلة جديدة تقوم على حرب الاستنزاف الطويلة. المشكلة أن القوى الدولية والإقليمية ما زالت تنظر إلى التنظيم كملف أمنى بحت، متجاهلة جذوره السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فى المقابل، يتغذى داعش على الفراغات، الانقسامات، والأزمات، ليعود كل مرة بحلة جديدة وإن كان بقدرات أقل من ذى قبل.
عودة داعش للمشهد ليست مفاجئة بقدر ما هى نتيجة طبيعية لإخفاق معالجة الأسباب البنيوية التى أنتجته: انهيار الدولة، تهميش المكونات، والفقر المدقع.
استراتيجيته الحالية تقوم على البقاء والانتظار، مستندة إلى خلايا صغيرة وقيادات محلية – عراقية بالأساس – تعيد إنتاج الحلم المؤجل بالخلافة. لذلك فإن الخطورة لا تكمن فى قوته الراهنة، بل فى قدرته على التحول والتكيف، ما يجعله تهديداً محلياً وإقليمياً ودولياً مستمراً.

 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق 6 صور ترصد استقبال السيسي بن زايد بمدينة العلمين
التالى الخطر ما زال قائمًا.. داعش بين الضربات المتلاحقة وإعادة التموضع