في عالمٍ تتوارى فيه الحقيقة خلف ستائر الخجل، خرجت آني إرنو لتكتب بالصدق لا بالتجميل. فهي ابنة الهامش التي ألبست الألم لغةً، وحوّلت العار إلى وثيقة أدبية تقاوم النسيان.
لم تكن تكتب لتروي ما جرى، بل لتضع جسدها شاهدًا على زمنٍ خذلت فيه القوانين النساء.
ففي روايتها "الحدث"، لا تبحث عن تعاطف، لكنها جعلت من التجربة الشخصية شهادة على زمن، وقانون، ومجتمع. عملٌ شاهق في صدقه، لا تستدرّ فيه الفائزة بنوبل تعاطف القارئ، بل تُعري تجربة تُعاش في الظل، وتحوّلها إلى نص إنساني صادم، لا يُنسى.
لقد وجدت الكاتبة نفسها في مواجهة تجربة الإجهاض في فرنسا، قبل أن يُصبح قانونيًا. كانت طالبة جامعية، وحملت من شاب لم يبدُ معنيًا بها، أو بما تمرّ به من خوف وعزلة. ومن هذا الموقف، كتبت واحدة من أقسى لحظات تلك التجربة:
"الوحيد الذي لم يبدُ مهتمًا هو الذي كنت قد حملت منه، والذي كان يرسل لي من بوردو خطابات متباعدة في الزمن، فيها كان يشير بالتلميحات إلى صعوبة التوصل إلى حل. (لكن لاحظ أنها في أجندتها كتبت: “سابني أتصرف لوحدي”.
كان ينبغي أن أستنتج أنه لم يعد يكنّ لي أي شعور، ولم يكن لديه سوى رغبة واحدة: أن يعود كما كان قبل هذه القصة، الطالب الذي لا ينشغل سوى بامتحاناته ومستقبله..."
هنا، لا يُقدَّم الإجهاض كفعل طبي فحسب، بل كعزلة وجودية مكتملة الأركان. عارٌ لا يُرى، وألم لا يُقال.
لكن ما يُميّز رواية الحدث ليس فقط ما قالته إرنو، بل كيف قالته. لقد كتبت بلغةٍ مجرّدة من الزينة، خالية من المجاز، كأنها تمسك بعدسة مكبّرة على جرحٍ مفتوح...
وفي الصفحة الأخيرة للرواية، تصل آني إرنو إلى ذروة الوعي:
"انتهيت من أن أضع في كلمات ما كان يبدو لي تجربة إنسانية شاملة: تجربة الحياة والموت، والزمن، والأخلاق، والحرام، والقانون… تجربة تمت معايشتها من أقصاها إلى أقصاها عبر الجسد...
محوت الذنب الوحيد الذي لم أشعر به تجاه هذا الحدث: أن يكون قد حدث لي، وأن أكون لم أفعل شيئًا حياله، كهبة تم تلقيها وبُعثرت.
الهدف الحقيقي من حياتي هو ربما فقط ما يلي: أن يصير جسمي، وإحساساتي، وأفكاري كتابة، أي شيء مفهوم وعام، تجربتي تذوب كلية في رأس وحياة الآخرين."
هذه كلمات لا تصدر إلا عن امرأة شجاعة، تعرف أن كلماتها ستُقرأ من الآلاف. لقد حوّلت التجربة الفردية إلى وعي جمعي، وجعلت من الجسد نصًا، ومن العار سؤالًا، ومن الألم كتابة تتجاوز ذاتها لتصبح شهادة.
وقد لا تكتمل الصورة دون الإشارة إلى أن رواية "الحدث" ليست العمل الوحيد الذي واجهت فيه آني إرنو ذاتها والواقع. فقد سبقتها أعمال مثل "المرأة المجمدة"، و"المكان"، و"شغف بسيط"، وكلها تكتب فيها الجسد والذاكرة كوثائق اجتماعية حادة. أما "الحدث"، فرغم ما ناله من تقدير نقدي واسع، فإنه لم يسلم من تحفظات بعض النقاد الذين رأوا في صراحته حدًّا قد يصدم القارئ. ومع ذلك، يبقى العمل علامة فارقة في أدب الاعتراف، وأحد أبرز نصوص السرد الذاتي النسوي في القرن العشرين.
بقي أن أقول لك إن آني إرنو هي الكاتبة الفرنسية الوحيدة التي فازت بجائزة نوبل للأدب، بعد ستة عشر فائزًا فرنسيًا سبقوها، أولهم الشاعر رينيه سولي برودوم عن ديوانه "اختيارات شعرية"...
نلتقي الأسبوع القادم بإذن الله، مع قراءة مختلفة، وكتاب آخر