انتشرت قضايا الخلع بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، ليس فقط بين الفتيات الصغيرات، بل أيضًا بين النساء الناضجات، بل وحتى من تجاوزن الستين من أعمارهن. هذا التحوّل اللافت يثير تساؤلات أعمق من مجرد الأسباب الظاهرة للخلع، ويقودنا إلى فهم التحليل النفسي لهذا القرار، باعتباره لحظة فارقة في رحلة المرأة نحو استعادة ذاتها بعد سنوات من التكيف القهري أو التعلق المؤذي.
قرار الخلع لا يأتي فجأة. إنه تتويج لمسار نفسي طويل يبدأ غالبًا بالإنكار، ثم التبرير، فالاحتراق العاطفي، وأخيرًا الوعي. العديد من النساء يبقين في علاقات زوجية مسيئة بدافع الخوف من الوحدة، أو الشعور بالذنب، أو من أجل الأطفال، لكن هناك نقطة فاصلة تحدث حين تبدأ المرأة في رؤية نفسها ككائن مستقل يستحق الاحترام والحب المتبادل. هذه اللحظة توصف في التحليل النفسي بأنها لحظة “إعادة تشكيل الهوية”، حيث تعيد المرأة تعريف من تكون، وما الذي تستحقه.
تشير نظرية التعلق إلى أن بعض النساء يعانين من نمط ارتباط غير آمن، يجعلهن أكثر عرضة للبقاء في علاقات سامة بدافع الحاجة للقبول أو الخوف من الرفض. ومع ذلك، فإن قرار الخلع يعكس – في كثير من الأحيان – تحررًا متأخرًا من هذا النمط، عندما تبدأ المرأة في بناء علاقة صحية مع ذاتها، وتحقيق ما يسمى بـ”الاستقلال الانفعالي” أو التمايز النفسي. وقد وجدت دراسة نُشرت في مجلة Personality and Individual Differences عام 2019 أن النساء اللواتي يطوّرن مستوى أعلى من التمايز النفسي يكنّ أكثر قدرة على اتخاذ قرارات مصيرية كالانفصال، رغم الضغوط الاجتماعية والثقافية.
من المنظور السلوكي المعرفي، فإن النساء في العلاقات المؤذية يعانين من تشوهات معرفية مزمنة، مثل: “أنا لا أستحق أفضل”، أو “هذا هو قدري”، لكن مع الوقت، وخصوصًا مع التعرض لتجارب داعمة أو وعي ذاتي متزايد، تبدأ تلك المعتقدات بالتفكك، لتحل محلها أفكار جديدة أكثر اتزانًا، مثل: “لست مسؤولة عن أذى الآخر”، أو “لديّ الحق في حياة آمنة”. وهذه التحولات الإدراكية هي ما يدفع المرأة في نهاية المطاف لاتخاذ قرار شجاع بالخلع.
دراسة نُشرت في Journal of Divorce & Remarriage عام 2021 على عينة من النساء في العالم العربي، وجدت أن 68% من قضايا الخلع كانت مدفوعة بتراكمات نفسية على مدار سنوات، وليس بسبب حدث طارئ. المشاركات أشرن إلى أنهن كنّ يعشن ما يسمى بـ”الانفصال النفسي التدريجي” عن الشريك، رغم استمرار العيش معه، إلى أن وصلن إلى نقطة لم يعد بالإمكان فيها التنازل عن احترام الذات.
الخلع في عمر متقدم لا يُعد هروبًا متأخرًا كما يراه البعض، بل نضوجًا متأخرًا. أن تطلب امرأة في الستين خلعًا بعد عقود من الصمت، هو إعلان شجاع عن استعادة صوتها الذي خنقته الأعراف. وهي بذلك تقدم نموذجًا نفسيًا متقدمًا لما يسمى بـ”المرونة المتأخرة”، وهو مفهوم يشير إلى قدرة الفرد على التغيير والنمو النفسي رغم العمر أو الظروف الممتدة.
إن قرار الخلع لا ينبغي قراءته فقط كحدث قانوني، بل كتحول داخلي عميق، يحمل في طيّاته التحرر من التعلق، الشفاء من القهر، واستعادة الاستحقاق. إنه صوت داخلي يقول: “أنا أستحق حياة أفضل”… ولو بعد حين.