هاني جنينة: البنك يُدير السيولة أسبوعيًا للسيطرة على التضخم واستقرار الأسعار
الاحد 27 يوليو 2025 | 08:09 مساءً

البنك المركزي المصري
في خطوة جديدة تؤكد مضي البنك المركزي المصري في تنفيذ سياسة نقدية انكماشية صارمة، أعلن «المركزي» عن سحب سيولة بقيمة 310.4 مليار جنيه من 19 بنكًا عاملًا بالسوق المحلي، من خلال عطاء السوق المفتوحة الذي تم بعائد مرتفع بلغ 24.5 %، تأتي هذه الخطوة في سياق توجه واضح من قبل صناع السياسة النقدية في مصر للسيطرة على معدلات التضخم المرتفعة التي تشهدها البلاد، وتثبيت استقرار الأسواق المالية والنقدية في مرحلة تتسم بتحديات داخلية وخارجية معقدة.
تُعد عطاءات السوق المفتوحة من أبرز أدوات البنك المركزي لإدارة السيولة قصيرة الأجل داخل الجهاز المصرفي.. وهي آلية تعتمد على إعلان البنك المركزي عن رغبته في سحب أو ضخ سيولة محددة من أو إلى البنوك، عبر فتح مزاد أسبوعي يتم فيه تحديد سعر العائد مسبقًا، وتُقدم البنوك عروضها لإيداع الأموال لدى «المركزي» بناءً على هذا السعر. وفي العملية الأخيرة، أظهر حجم العطاء المقبول أن هناك وفرة في السيولة لدى البنوك، يقابلها إصرار من «المركزي» على امتصاص هذه الوفرة لتقليل الضغط على الأسعار.
اللافت في هذه العملية أن البنك المركزي نفذها ضمن الإطار الجديد الذي اعتمده العام الماضي فيما يتعلق بالعملية الرئيسية لربط الودائع. حيث كان النظام السابق يعتمد على ما يُعرف بأسلوب التخصيص النسبي، والذي يُحدد نصيب كل بنك من العطاء بناءً على نسبة مساهمته. لكن بداية من 23 أبريل 2024، تم الانتقال إلى أسلوب جديد يُعرف بالقبول الكامل لجميع العطاءات، أو ما يُعرف بـ Full Allotment، وهو ما يسمح للبنك المركزي بقبول كل الكميات المعروضة من البنوك المشاركة، طالما استوفت الشروط الفنية. هذه الخطوة تُعد انعكاسًا لتوجه «المركزي» نحو مزيد من الشفافية في إدارة السيولة، وتكريسًا لممارسات أكثر مرونة ودقة في تنفيذ السياسة النقدية.
الهدف الأساسي من هذه الخطوة هو السيطرة على التضخم، الذي يُعد الخطر الأكبر الذي يهدد الاستقرار الاقتصادي في مصر خلال الفترة الحالية. فمع وجود فوائض نقدية كبيرة داخل السوق، وارتفاع حجم الإنفاق مقارنة بقدرة السوق على إنتاج السلع والخدمات، تتصاعد الأسعار بشكل مستمر، وهو ما يجعل من الضروري تقليص حجم السيولة المتداولة.
وفي هذا الإطار، تُعتبر عطاءات السوق المفتوحة وسيلة مثالية لسحب السيولة من الجهاز المصرفي، وتقييد قدرته على الإقراض، وبالتالي تقليص حجم الطلب داخل الاقتصاد، إضافة إلى ذلك، فإن سعر العائد المرتفع الذي يمنحه «المركزي» في هذه العطاءات يساهم في تشجيع البنوك على توجيه أموالها نحوه بدلًا من استخدامها في تمويل عمليات إقراض قد تسهم في زيادة التضخم.
كما أن هذه السياسة تخلق بيئة مشجعة على الادخار داخل السوق، وهو ما يدعم الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية، ويحد من الضغوط على سوق الصرف.. العائد المرتفع البالغ 24.5 % يعتبر أيضًا رسالة واضحة للأسواق حول نية «المركزي» في الإبقاء على سياسته التشددية حتى يتأكد من انحسار الضغوط التضخمية بشكل مستدام.
ويحرص البنك المركزي من خلال هذه الإجراءات على تحقيق هدفه التشغيلي المتمثل في استقرار سعر العائد المرجح لليلة واحدة في سوق ما بين البنوك، أو ما يُعرف بـ «سعر الكوريدور». هذا السعر هو المؤشر الأساسي الذي تستخدمه البنوك لتسعير منتجاتها التمويلية، وبالتالي فإن التحكم فيه يتيح لـ «المركزي» التأثير المباشر في توجهات السيولة والائتمان داخل السوق.
اقتصاديًا، فإن سحب هذا الحجم الكبير من السيولة يعني أن البنوك ستواجه في المدى القصير ضغوطًا على سيولتها التشغيلية، مما قد يدفعها إلى تقليص حجم الإقراض، لا سيما القروض الاستهلاكية وقروض الشركات الصغيرة والمتوسطة، التي تعتمد بشكل كبير على السيولة المتاحة بتكلفة منخفضة.
وعلى الرغم من أن هذا التوجه قد يحد من نشاط الائتمان، إلا أنه يُعد أمرًا ضروريًا لضبط السوق ومنع تفاقم الاختلالات النقدية التي قد تؤدي إلى أزمة أسعار أوسع.
غير أن هذه السياسة لا تخلو من التحديات، خاصة في ظل ما تعانيه قطاعات الإنتاج والتجارة من ارتفاع في تكاليف التمويل والمواد الخام، ويخشى بعض المحللين من أن تؤدي التشددات النقدية الحالية إلى إبطاء النمو الاقتصادي على المدى القصير، خصوصًا في ظل عدم وجود سياسات مالية موازية تدعم القطاعات الإنتاجية أو تخفف من الأعباء على الفئات المتضررة من التضخم.
مع ذلك، فإن التوجه العام للبنك المركزي يعكس إدراكًا واضحًا بأن الأولوية القصوى حاليًا هي احتواء التضخم، حتى وإن كان ذلك يعني تحمّل بعض التباطؤ الاقتصادي المؤقت. فالتضخم المرتفع لا يؤثر فقط على القوة الشرائية للأفراد، بل يهدد أيضًا استقرار سعر الصرف، ويؤثر على توقعات المستثمرين، ويُضعف مناخ الاستثمار بشكل عام.
وبالنظر إلى الفترة المقبلة، من المرجح أن يستمر البنك المركزي في استخدام أدواته المفتوحة لإدارة السيولة بما يتماشى مع هدفه الأساسي في استقرار الأسعار. وستكون أدوات مثل عطاءات الودائع المفتوحة وعمليات السوق الثانوية جزءًا رئيسيًا من استراتيجية «المركزي» لتوجيه حركة الأموال داخل السوق، وتثبيت الثقة في السياسة النقدية.
وفي المجمل، فإن عملية سحب 310.4 مليار جنيه من البنوك المحلية تمثل رسالة واضحة من البنك المركزي المصري بأنه مستمر في مسار تشديد السياسة النقدية بكل حزم، مهما كانت التحديات، ورغم ما تحمله هذه السياسة من تكاليف قصيرة الأجل، إلا أنها تُعد ضرورية لبناء قاعدة نقدية أكثر استقرارًا، وتحقيق التوازن المطلوب بين نمو اقتصادي مستدام، واستقرار مالي طويل الأمد.
أكد هاني جنينة، رئيس قطاع البحوث في شركة «الأهلي فاروس»، أن البنك المركزي المصري ينتهج آلية دقيقة ومنتظمة لسحب السيولة من القطاع المصرفي، في إطار سعيه للسيطرة على التضخم وتحقيق استقرار الأسعار.
وأوضح جنينة، خلال تصريحات خاصة لـ العقارية أن هناك سيولة لدى البنوك العاملة في السوق المصري، والبالغ عددها نحو 37 إلى 38 بنكًا، وتتمثل في النقدية المتاحة داخل خزائن البنوك أو في صورة ودائع جارية لدى البنك المركزي.
وأضاف أن هذه السيولة، إذا لم تُوظف في الإقراض أو استثمارها بشكل منتج، تبقى دون تأثير يُذكر على معدلات التضخم.. «طالما السيولة محتفظ بها في خزائن البنوك، فهي لا تضغط على أسعار السلع والخدمات»، بحسب تعبيره.
ولفت إلى أن دور البنك المركزي هنا هو منع تحول هذه السيولة غير المستخدمة إلى قروض تُضخ في الاقتصاد، مما قد يُغذي التضخم. ولذلك، يتدخل المركزي أسبوعيًا، ويطلب من البنوك إيداع هذه الفوائض لديه في عمليات تُعرف بـ»الإيداع لأجل»، بعوائد تدور حول 24.5 %، وهو متوسط سعر الفائدة ضمن نطاق الكوريدور.
وبين جنينة أن هذه الآلية ليست استثنائية أو مرتبطة بظرف طارئ، بل تُنفذ بشكل أسبوعي منذ سنوات، وهي جزء أساسي من أدوات السياسة النقدية لضبط معدلات السيولة في السوق. وأوضح أن «المركزي» يُجري تقييمًا أسبوعيًا لمستويات السيولة، ويُقرر بناءً عليه حجم الأموال التي يجب سحبها أو إعادة ضخها.
وأشار إلى أن البنك المركزي يقوم بإعادة إقراض نفس المبالغ التي سحبها في الأسبوع السابق، ما يُمثل دورة متكررة من سحب وإعادة توجيه السيولة وفقًا لما يراه مناسبًا لحجم الإقراض والنشاط الاقتصادي.
وفي سياق متصل، أوضح جنينة كيف تؤدي الاستثمارات الأجنبية في أدوات الدين المحلي، مثل أذون الخزانة، إلى تحويل الأصول إلى سيولة.
وضرب مثالاً إذا كان هناك ببنك قد يمتلك أذون خزانة ضمن أصوله، ولكنها لا تُعد سيولة قابلة للإقراض المباشر.. إلا أنه عند دخول مستثمر أجنبي لشراء هذه الأذون، فإن البنك يتحول من حيازة الأذون إلى حيازة نقدية أو سيولة فعلية.
وقال: «في هذه الحالة، يقوم البنك المركزي بالتدخل وسحب هذه السيولة الجديدة الناتجة عن الاستثمار الأجنبي، عبر آلياته الأسبوعية، للحفاظ على الاتزان النقدي»، مؤكدًا أن هذا النوع من التدفقات يؤدي أحيانًا إلى زيادة كبيرة في عمليات سحب السيولة من السوق.
اقرأ ايضا
إخلاء مسؤولية إن موقع عاجل نيوز يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.