المخاطر البيئية المتزايدة والتغير المناخي الذي يهدد كوكبنا يفرضان الحاجة إلى أدوات تمويل مبتكرة قادرة على توجيه الاستثمارات نحو مشروعات خضراء، وهنا تمثل السندات الخضراء نموذجًا رائدًا يجمع بين الجاذبية الاستثمارية والالتزام البيئي؛ ما يربط رأس المال بالمشروعات المستدامة.
انطلقت هذه الفكرة عام 2007 مع إصدار البنك الدولي أول سند أخضر، وتجاوز حجم السوق اليوم مئات المليارات من الدولارات مع تنوع الجهات المصدرة من حكومات وشركات خاصة.
ظلّ نمو السوق متسارعًا رغم التحديات المتعلقة بالشفافية وقياس الأثر البيئي بدقة بالإضافة إلى مخاطر "الغسل الأخضر". يستعرض هذا المقال مفهوم السندات الخضراء وآليات إصدارها، ويحلل دور الحكومات والمؤسسات الدولية في دعمها، مع التركيز على أبرز التحديات والفرص.
مفهوم السندات الخضراء وتعريفها
تُعرَّف السندات الخضراء بأنها أدوات دَين تصدرها الحكومات أو الشركات أو المؤسسات المالية بغرض تمويل مشروعات ذات تأثير بيئي إيجابي.
يختلف هذا النوع من السندات عن السندات التقليدية بالالتزام الصريح بتوجيه عائدات الإصدار إلى أنشطة بيئية محددة، مثل الطاقة المتجددة أو إدارة النفايات أو النقل النظيف.
ويعكس مفهوم السندات الخضراء فهم الأسواق المالية لأهمية دمج اعتبارات الاستدامة في إستراتيجيات التمويل، وغالبًا ما يستند التحقق من خضوع السندات للمعايير الخضراء إلى إطارات تقييم معترف بها دوليًا مثل مبادئ السندات الخضراء الصادرة عن مجلس الأسواق الخضراء.
تاريخ تطور السوق العالمية للسندات الخضراء
بدأت سوق السندات الخضراء في الظهور الفعلي عام 2007، وأصدر البنك الدولي أول سند أخضر بقيمة 440 مليون دولار لتمويل مشروعات الطاقة المتجددة ومكافحة التغير المناخي عام 2008. ومنذ ذلك الحين شهد القطاع نموًا متزايدًا مدفوعًا بالتزام الحكومات باتفاقيات دولية مثل اتفاق باريس للتغير المناخي.
وتراوحت الإصدارات السنوية من بضعة مليارات دولارات في السنوات الأولى إلى مئات المليارات في العقد التالي، لتشمل شريحة واسعة من القطاعين العام والخاص.
وقد أسهمت حالات النجاح الأولى في إثبات جدارة هذه الأداة ورفع درجة الثقة بها لدى المستثمرين المؤسسين الذين يرغبون في تحقيق عوائد مالية مستدامة جنبًا إلى جنب مع أثر اجتماعي وبيئي إيجابي.
أهمية السندات الخضراء في التمويل المناخي
تمثل السندات الخضراء جسرًا بين أصحاب رؤوس الأموال والمشروعات الصديقة للبيئة؛ إذ توفر السيولة اللازمة لتسريع وتيرة التحول نحو اقتصاد منخفض الكربون.
ويسهم هذا النوع من السندات في توجيه الاستثمارات بشكل مباشر نحو أنشطة تقلل الانبعاثات أو تعزز القدرة على التكيف مع التغيرات المناخية، مثل مشروعات البنية التحتية أو تحسين شبكات توزيع المياه. إلى جانب الفائدة البيئية،
وتتيح السندات الخضراء للمستثمرين بناء محافظ مستدامة تعزز سمعتهم وتتوافق مع معايير المسؤولية الاجتماعية وحوكمة الشركات؛ ما يرفع من جاذبيتهم لدى المستثمرين الجدد ويعزز من استقرارهم المالي على المدى الطويل.
آلية عمل السندات الخضراء
تنطلق عملية إصدار السند الأخضر من تحديد جهة الإصدار للمشروعات المؤهلة وفق معايير بيئية محددة، ثم إعداد إطار عمل يوضح كيفية تخصيص العائدات وإجراءات التقارير المتعلقة بها.
عقب ذلك، يجري الحصول على تقييم خارجي مستقل للتحقق من مطابقة الإطار للمعايير المعترف بها. وعند طرح السند للاكتتاب، يُسهم المستثمرون بشراء وثائق الدين، ويُستعمل رأس المال المجموعة حصرًا في تمويل المشروعات الخضراء.
تُجري جهة الإصدار مراقبة دورية على استعمال الأموال، وتعد تقارير تفصيلية عن الأثر البيئي والمالي للمشروعات الممولة؛ ما يعزز الشفافية ويطمئن المستثمرين إلى التزام الجهة بالإفصاح والمساءلة.
معايير وإستراتيجيات إصدار السندات الخضراء
تستند معايير إصدار السند الأخضر إلى 4 محاور رئيسية يعرفها المستثمرون والهيئات الرقابية:
1- تحديد المشروعات المستحقة للتمويل.
2- إدارة العائدات المحصلة من الإصدار.
3- إجراءات التقارير الدورية.
4- التقييم الخارجي.
ضمن هذا الإطار، تتبع الجهات المصدِّرة إستراتيجيات متعددة تسعى إلى تعزيز جاذبية السندات، كربط أسعار الفائدة بتحقيق أهداف بيئية محددة، أو منح حوافز مالية للمشروعات التي تحقق خفضًا في الانبعاثات.
واعتمادًا على جودة إطار العمل وشفافية التقارير، قد تحصل السندات على تصنيفات ائتمانية خضراء خاصة تزيد من مستوى الثقة لدى المستثمرين واستقرار أسعارها في الأسواق الثانوية.
دور الحكومات والمؤسسات الدولية في دعم السندات الخضراء
تؤدي الحكومات دورين أساسيين في تعزيز سوق السندات الخضراء: بصفتها جهات إصدار تطرح سندات لتمويل مشروعات البنية التحتية المستدامة، وبصفتها جهات تشريعية تنشئ حوافز ضريبية وتنظيمية لحث القطاع الخاص على الدخول في هذا السوق.
أما المؤسسات المالية الدولية والبنوك التنموية فتقدم ضمانات أو تسهيلات تمويلية تقلل من مخاطر الإصدار، كما تسهم هذه الجهات في وضع معايير موحّدة لضمان توافق إطارات العمل الأخضر بين الدول؛ ما يُسهل اندماج السندات الخضراء في محافظ المستثمرين العالمية ويرفع من حجم الطلب عليها.

التحديات التي تواجه سوق السندات الخضراء
رغم النمو السريع الذي تشهده السندات الخضراء؛ فإنها تواجه عددًا من التحديات تعوق توسّعها على نحو متوازن.
ومن أبرز هذه التحديات: مخاطر "الغسل الأخضر" (Greenwashing)؛ حيث تطرح بعض الجهات إصدارات جذابة دون التزام فعلي بالمعايير البيئية الصارمة.
كما تبرز صعوبات في قياس الأثر البيئي بدقة وثقة؛ لافتقار بعض الأسواق إلى بيانات كافية وقواعد واضحة للتقارير.
إضافة إلى ذلك، تشكّل تكلفة إعداد الإصدارات واستقطاب التقييمات الخارجية عبئًا على الجهات المصدرة، وخصوصًا في الاقتصادات الناشئة. مع نقص في الوعي والمعرفة بأهمية السندات الخضراء لدى بعض المستثمرين المحليين؛ ما يحد من سيولة هذه الأداة في بعض الأسواق.
فرص النمو المستقبلية لتمويل المشروعات عبر السندات الخضراء
في المقابل، توفر السندات الخضراء آفاقًا واسعة لتحقيق نمو مستدام في تمويل المشروعات الداعمة لقضايا المناخ، خصوصًا مع تزايد التوجه نحو الاقتصاد الدائري والتمكين التقني في قطاعات الطاقة والنقل.
ويُتوقع أن يُسهم تطوير آليات مالية مبتكرة، مثل السندات الزرقاء، لتمويل المشروعات المرتبطة بالمياه، أو السندات الاجتماعية المستدامة، بدفع السوق نحو مستويات تمويل أكبر وأشمل.
كما أن دمج التقنية المالية والبلوك تشين في عمليات تتبع العائدات والإفصاح قد يعزز الشفافية ويخفض التكاليف. إضافة إلى ذلك، يوفر تبنّي معايير موحدة ومبادرات تنسيق إقليمي فرصًا لتوسيع قاعدة المستثمرين وجذب استثمارات خارجية؛ ما يسرع من وتيرة الاستجابة للتحديات المناخية العالمية.
تأثير السندات الخضراء في تحقيق أهداف التنمية المستدامة
تمثل السندات الخضراء أداة فاعلة لتحقيق العديد من أهداف التنمية المستدامة المنصوص عليها في أجندة الأمم المتحدة 2030، بدءًا من ضمان الطاقة النظيفة بأسعار معقولة، وصولًا إلى تحسين الصحة والرفاهية والحد من التأثيرات البيئية الضارة؛ إذ يوفر التمويل الموجه إلى مشروعات الطاقة المتجددة والبنية التحتية المقاومة للتغير المناخي فرصًا لتوفير وظائف جديدة وتعزيز النمو الاقتصادي الأخضر.
كما تسهم هذه الأداة في تحسين إدارة الموارد الطبيعية والحفاظ على التنوع البيولوجي؛ ما يدعم المجتمعات المحلية، ويعزز من قدرتها على التكيّف مع الكوارث.
إن السندات الخضراء تشكّل ركيزة أساسية في التمويل المناخي وتوجيه الاستثمارات نحو مشروعات مستدامة وذات أثر بيئي إيجابي.
ولتعظيم الاستفادة منها، ينبغي على الجهات الصادرة لها تعزيز الشفافية من خلال تبني معايير موحدة وإفصاح دوري، وتوسيع نطاق التقييمات الخارجية المستقلة للحد من مخاطر الغسل الأخضر.
كما يستلزم الأمر تشجيع المشاركة الفاعلة للمستثمرين المحليين عبر حملات توعوية وتطوير أدوات مالية مبتكرة تقلل من الحواجز.
وعلى المستوى الدولي، يبقى التنسيق بين الحكومات والمؤسسات المالية أمرًا حيويًا لوضع أطر تمويلية متجانسة تدعم الأسواق الناشئة وتمكّنها من الإسهام في الجهود العالمية لمكافحة التغير المناخي.
ويمكن أن تؤدّي السندات الخضراء دورًا محوريًا في تسريع الانتقال في مجال الطاقة وتحقيق التنمية المستدامة، شريطة توظيفها وإدارتها بشكل جيد وفق رؤية إستراتيجية طويلة الأمد
* الدكتورة هبة محمد إمام - خبيرة دولية واستشارية بيئية مصرية.
موضوعات متعلقة..
اقرأ أيضًا..