في الوقت الذي تتسابق فيه الحكومات ومؤسسات البحث العلمي حول العالم لمواجهة ظاهرة تغير المناخ وخفض الانبعاثات الكربونية، ما يزال هناك أخطار بيئية متفاقمة ناتجة عن الدخان الأبيض المنبعث من عربات رش المبيدات الحشرية في الأحياء السكنية.
وفي هذا الإطار، أجرى فريق بحثي من المعهد القومي لعلوم الليزر بجامعة القاهرة في مصر دراسة -حصلت عليها منصة الطاقة المتخصصة (مقرّها واشنطن)- لتوضيح الأخطار الخفية للمبيدات الحشرية المعتمدة على المشتقات النفطية.
واعتمدت الدراسة -التي أعدّها فريق بحثي بقيادة رئيس قسم تطبيقات الليزر الأستاذ الدكتور وليد توفيق- على تقنيات التحليل الطيفي الليزري لكشف مكونات هذا الدخان.
ووجدت الدراسة أن هذا الدخان يتكون من مزيج من مركبات كيميائية عالية السُمّية، تنتج عن احتراق مبيدات تعتمد على مشتقات نفطية، وتُطلق جسيمات دقيقة ترتبط مباشرة بأمراض الجهاز التنفسي والسرطان.
مواد عالية السمية
يقول الدكتور وليد توفيق، إنه في الوقت الذي يسعى فيه العالم لحماية صحة الإنسان من التلوث، ما تزال بعض المناطق تستعمل طرقًا تقليدية خطيرة لمكافحة الحشرات.
وأضاف أن الدخان الأبيض الناتج عن رش المبيدات الحشرية قد يبدو غير ضارّ، لكنه يحمل في طيّاته مركبات سامّة تهدد الجهاز التنفسي والمناعي.
وأضاف أن التحليل الطيفي الليزري كشف عن وجود روابط كيميائية نشطة تُحوّل هذه المركبات إلى مواد عالية السمّية عند تعرُّضها للحرارة، لافتًا إلى أن الأضرار الناتجة عنها قد تمتد من تهيُّج العين والجلد إلى التسبب في السرطان وفشل التنفس.
أضرار على الصحة العامة
رصدت الدراسة أن مركبات المبيدات الحشرية المعتمدة على المشتقات النفطية تحتوي على روابط كربونية مزدوجة وثلاثية تجعلها أكثر تفاعلًا وخطورة عند استعمالها في عمليات التبخير الحراري مثل:
-
الهيدروكربونات غير المشبعة (الروابط الثنائية/الثلاثية):
مثل الإيثيلين والأسيتيلين، وهي مركبات نشطة كيميائيًا وتُظهر قدرة على التفاعل مع الأكسجين والحرارة لتكوين مركبات ثانوية شديدة السمية، خاصة في الهواء الطلق، مما يُضاعف تأثيرها الضار بالصحة العامة.
-
ثاني أكسيد الكربون (CO₂):
لا يقتصر خطره على بنيته الجزيئية، بل يمتد إلى تأثيره الفسيولوجي على الجسم البشري عند التعرض لتركيزات عالية، مثل اضطراب توازن الحموضة في الدم وصعوبة نقل الأكسجين.
-
أول أكسيد الكربون (CO):
ويُعدّ غاز شديد السمّية يحتوي على رابطة ثلاثية بين الكربون والأكسجين، يَحول دون ارتباط الأكسجين بالهيموغلوبين، مما يُعرّض الإنسان لخطر فقدان الوعي والوفاة.
وقال الدكتور وليد توفيق -في تصريحات إلى منصة الطاقة المتخصصة-، إن خطورة هذه المركبات لا تكمُن فقط في وجود الروابط الكيميائية غير المشبعة، بل في تفاعلها داخل البيئة وتحوّلها إلى مواد أشد سميّة بفعل الحرارة أو أشعة الشمس مما يسلّط الضوء على أهمية التحليل الليزري بصفته أداة فعّالة للكشف المبكر عن التهديدات البيئية غير المرئية، وتقييم المخاطر قبل تفشّيها.
وبحسب الدراسة المنشورة ضمن قاعدة بيانات سكوبس الدولية، تنبع الخطورة من أن هذه المركبات تُطلق عند احتراقها جزيئات متناهية الصغر تتفاعل مع الهواء والرطوبة وتنتج أكاسيد كربونية وجذور حرة (Free Radicals)، ما يرفع من احتمالات الإصابة بالسرطان والالتهابات المزمنة.
خطر بيئي مضاعف
يشير الدكتور وليد توفيق إلى أن الممارسات التقليدية في مكافحة الحشرات، التي تعتمد على التبخير بالدخان الأبيض، تُشكّل خطرًا بيئيًا مضاعفًا.
وأوضح أن الدخان الناتج يحتوي غالبًا على مادة الديكلوروڤوس (DDVP)، لافتًا إلى أنها تُعدّ من مركبات الفوسفات العضوي، وتُصنَّف من قبل الهيئة البريطانية للسموم بأنها "شديدة السمية عند الاستنشاق أو ملامسة الجلد"، وتُدرجها الوكالة الدولية لأبحاث السرطان ضمن المواد المسرطنة المحتملة.
وأضاف أن عملية الاحتراق تُطلق -كذلك- جسيمات PM2.5 التي تخترق الرئتين وتستقر فيها، مما يُعدّ من أبرز أسباب الربو والتهاب الشعب الهوائية، زيادة معدلات سرطان الدم، المعدّة وفق دراسات منشورة في جامعة كورنيل.
وأضاف توفيق أنّ تزامُن هذا الخطر البيئي مع تسارع التغيرات المناخية يفاقم من حدّته، موضحًا أن ارتفاع درجات الحرارة وازدياد أوقات الجفاف وتغيّر نمط تكاثر الحشرات، قد دفع بعض البلديات إلى الاعتماد بشكل متكرر على التبخير بمثابة حل سريع، دون تقدير حقيقي للعواقب الصحية.
وأوضح أن بعض الحلول البيئية المؤقتة تُحوّل الإنسان إلى ضحية غير مباشرة لأدوات يُفترض أنها "تحميه"، مما يتعارض مع مفاهيم الاستدامة التي تسعى إليها الدول ضمن استراتيجيات مكافحة تغير المناخ.
بدائل آمنة ومستدامة
أوصت الدراسة بمجموعة من البدائل الذكية التي أثبتت كفاءتها عالميًا في مكافحة الحشرات دون الإضرار بالبشر أو البيئة، من بينها: أجهزة جذب الناموس الذكية التي تعتمد على ثاني أكسيد الكربون أو الضوء البنفسجي، والوقاية الميكانيكية مثل تركيب الشبك على النوافذ وغلق الأبواب، والنظافة العامة وتجفيف مصادر المياه الراكدة لمنع تكاثر الحشرات.
وتوقّع الدكتور وليد توفيق -خلال تصريحاته إلى منصة الطاقة المتخصصة- مستقبلًا واعدًا تقوده تقنيات الليزر والذكاء الاصطناعي لرصد التلوث وتحليل الهواء في الوقت الفعلي، وتحديد بؤر انتشار الحشرات بدقّة، ما يمهّد لتقنيات استهداف موضعي غير ضار بالإنسان.
موضوعات متعلقة..
اقرأ أيضًا..