إن الحالة الفكرية التى شكلها محمد أركون (2010-1928)، بالإضافة إلى مشروعه النقدى الذى طاول التراث العربى الإسلامى فى أبرز محطاته، يستحقان التوقفّ عندهما نظرا إلى ما تركه لنا من إرث فكرى كان له الأثر المتفاوت فى الشرق والغرب.
فهناك من يرى فيه مجددا للفكر الديني، وآخر من يرى فيه مصلحا دينيا. كما أن هناك من يدرج اسمه ضمن مؤرخى الفكر الإسلامى المرموقين، وهناك من يرى فيه فيلسوفا طرح إشكالية العقل المسلم وأعاد النظر فى آلية اشتغاله منذ نشأته وصولا إلى الحقبة المعاصرة.
وفى رأى الدكتورة نائلة ابى نادر؛ وهى باحثة لبنانية متخصصة فى الفكر العربى الإسلامي، تشتغل على مقاربة الإشكاليات المعاصرة، وهى أستاذة متفرغة فى الجامعة اللبنانية بدرجة أستاذ مساعد. ومؤلفة كتاب «التراث والمنهج بين أركون والجابري» فان اركون هو صاحب مشروع نقدى تفكيكي، حاول الابتعاد عن الاحكام الايديولوجية المعتادة وغامر فى خوض الخطوط الحمراء حاملًا الهم الابستمولوجى « المعرفي»، محاربا على أكثر من جهة.
لذا كان هناك من اعتبره مشاغبا، أو مبشرا بالإسلام ، وهناك من اعتبره منحازا للغرب والحداثة والفكر التنويري.
ولتخصص الدكتورة نائلة فى فكر محمد أركون ودقة قراءتها لتراثه كان لنا معها هذا الحوار.
■ من محمد أركون؟
- محمد أركون جزائري، صاحب مشروع "نقد العقل الإسلامى "، عمل على تفكيك العقل الدينى والبحث فى طاقاته وبنيته الرئيسة، كما عمل على كشف آلية اشتغال العقل الإسلامى على مراحل تشكله فى التاريخ. استثمر مكتسبات علوم الإنسان واللغة والمجتمع، فاستفاد من المنهجيات الحديثة وطبقها فى قراءته النقدية للتراث العربى الإسلامي. له العديد من المؤلفات والمقالات والدراسات باللغات الفرنسية والإنجليزية ، كما ترجمت معظم مؤلفاته الى اللغة العربية.
تسلم رئاسة قسم الدراسات الاسلامية فى السوربون بالإضافة إلى مهام فكرية وإدارية أخرى، كما أنه حاضر فى جامعات عدة حول العالم. شغل منصب أستاذ تاريخ الفكر الإسلامى فى السوربون، كما أنه درس فى معاهد وجامعات أوروبية وأمريكية وإسلامية متنوعة. حصل على عدة جوائز تقديرية عالمية من أعلى المرجعيات والصروح الاكاديمية.
■ ما الذى ميز مشروعه الفكري؟
شدد فى ابحاثه على ابراز النزعة الانسانية فى الفكر العربى الإسلامى معتبرا إياها من السمات التى صاغت هذا الفكر خلال المرحلة الذهبية، أى فى القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادى . اشتغل على تفكيك التركيبات المفهومية منتهجا استراتيجية تهدف الى تحرير العقل من الاوهام، وفضح الهيمنة التى مارستها السلطة، دينية كانت أم سياسية. كما انه حث فى أكثر من مناسبة على النضال بغية التخفيف من الأوامر والإكراه باسم الدين التى تضغط على البشر، وعلى اختراق الحصون والأسوار العقيدية المغلقة، وزحزحة حدود ما هو مسموح التفكير فيه للوصول الى مساحة حريات أوسع؟
وذلك ليتمكن المسلم من الدخول و اللحاق فى ركب الحضارة العالمية.
■ وما أبرز الاسس التى ارتكز عليها اركون فى قراءة التراث ؟
عمل أركون على تأسيس خطاب يقارب الاسلام ويقراءه من وجهة نقدية قائمة على مكتسبات علوم الانسان والمجتمع. فقام بتفكيك آلية اشتغال العقل المسلم ، كما راجع ابرز ما توصل إليه المستشرقون من مقاربات فى هذا المجال، واقترح مسارا نقديا يسهل الغوص فى طاقات التراث المتراكمة، ويوفر فهما عميقا لتنوع المجتمعات العربية الاسلامية المعاصرة. لكن يبقى أبرز ما أنجزه أركون يتمحور حول النص الدينى وكيفية مقاربته . وتقديمه من خلال قراءة جديدة للنص القرآني. يذكر اركون فى سياق كلمه حول مساره الفكري: "كان هوسى الكبير عندما حررت أطروحتى لدكتوراه الدولة فى الستينيات من القرن الماضى أن أطبق على الدراسات الاسلامية كل المناهج الاشكاليات الجديدة التى ظهرت للتو فى مجال علم التاريخ وعلم اجتماع وعلم الانثروبولوجيا وعلم النفس وعلم التحليل النفسى والنقد الادبى وعلم اللسانيات وعلم السيميائيات وعلم الدلالات عموما .
■ لماذا تم رفض مشروع اركون فى الغرب وفى الشرق ايضا ؟
عانى اركون من متلقيين مشروعه الفكري، ففى الغرب، اتهم بأنه الإسلامى الذى يروج صورة تاريخية لمسلم يريد ان يبرز الاسلام بشكل موضوعى وبدون تحيزات مسبقة او صور ذهنية راسخة و فى الشرق كان سيف الاتهام مسلطا على قراءته النقدية للعقل اللاهوتى وما نتج عنها من تأويلات وهى قراءة تخرج عن المألوف، وعما هو مستحب تقليدى . لم يشأ اركون التقوقع فى خانة معينة، لذلك كان علامة حية للمفكر المنفتح على المعرفة، أينما وجدت. وقد حاول أن يزحزح الحدود الفاصلة بين المناطق الفكرية، والمدارس الفلسفية، والمناهج الحديثة. فواكب آخر ما كان يظهر من مشاريع فكرية، ومناهج نقدية فى الغرب، وعرف كيف يوظفها للاستفادة منها فى مجال عمله.
كان مغامرا لا يساوم ولايداهن، همه الاساسى الحفر فى طبقات التراث باحدث التقنيات لمزيد من الكشف عن المستور فى هذا التراث الضخم.
■ هل يمكن تلخيص المشروع الاساسى لمحمد اركون ؟
إن من يقرأ ما نشره أركون من نصوص تهتم بموضوع نقد العقل الإسلامى ، سوف يجد مشروعا متعدد الابعاد، يقارب تجليات هذا العقل عبر التاريخ، وآلية اشتغاله. درس الوحى وبحث فى التأويل انطلاقا من مكتسبات علوم الانسان واللغة والمجتمع، كما ميز بين النص المقدس والنصوص التفسيرية الناتجة عنه. وبذلك فكك عملية التداخل بين العامل الروحى والعامل الزمنى فى النص القرآنى كما فى نصوص الفقهاء. وميز ايضا بين الدين بالمعنى اللاهوتى ، والدين بالمعنى الروحاني. توقف طويلا عند فهم ظاهرة العنف المقدس.
وربطها بمفهوم الحقيقة الواحدة والمطلقة.. أشار اركون إلى عملية توظيف الدين فى السياسة، التشابك بين السيادة العليا الالهية والسلطة السياسية، كاشفا عن أن الاسلام عرف العلمنة، من خلل أمثلة وشواهد استلها من التاريخ.
لقد حاول أركون جاهدا من خلل منهجيته النقدية أن يبرز أهم المشاكل التى يعانى منها الفكر العربى – الإسلامى وشدد على أن الحقيقة التاريخية هى مزدوجة، على الجميع أن يتفهموا ذلك. هناك فى الدرجة الاولى ما يتصوره العقل عن هذه الحقيقة، أى ما الذى تشكل عن ذلك الماضى لدى المسلمين. وهناك فى الدرجة الثانية ما جرى حقيقة فى هذا الماضى أى الوقائع االتى تم اخفاؤها
هناك إذا عملية تمويه خطيرة يجب الكشف عنها لانها تعوق محاولة قراءة الواقع الحقيقي. هذه العوائق اجتماعية كانت أم نفسية أم ثقافية أم لغوية، كلها لابد ان تعود على ساحة الابحاث والتحليل والنقد العلمي.
■ ما أبرز ماتوصلت اليه بعد هذه الدراسة المتعمقة لمشروع اركون الفكرى ؟
هناك عدد من الاستنتاجات التى توصلت اليها بعد دراسة مشروع اركون النقدى منها ان الفيلسوف يستطيع أن يتساءل استمرار عن وجود وقائع تاريخية صحيحة، وعن طريق عملى للوصول إليها. إنه يبحث عن الحقيقة ضمن منهجيات عديدة من دون أن يحكمه غرور امتلكه اليقين كما يفعل المتدينون.
-كذلك اركون رأى أن القيام بعملية نقد العقل الدينى امر غير مرحب به، إذ يشوبه الخطر والارتباك ، وهو يتطلب الجهد والقوة على تحمل الصعوبات والمخاطر. كذلك، يصعب على المؤمنين التقليديين البعيدين عن الروح النقدية المنفتحة أن يتقبلوا مفاعيل نقد عقلهم الديني، من أى جهة أتى، لان مقدساتهم هى التى تتعرض للخطر، ولان الحقائق الشعبية المترسخة فى نفوسهم سوف تتزعزع. يشير الى أن "هناك سياسة متعمدة تهدف الى سحق الار اء المعرفية الداعمة للفكر النقدي.
- أعلن أركون، فى أكثر من موضع أو مناسبة ، إن الهدف من ممارسة النقد فى أن يجعل ما هو "مستحيل التفكير فيه" أمرا ممكنا التفكير فيه على الرغم من كل الضغوظ والعراقيل التى يمكن أن يتعرض لها من يتخذ النقد منهجا للبحث فى ساحة الفكر العربى الإسلامى المعاصر. هناك صعوبة كبرى لدى مسلمى اليوم فى القيام بعملية الفصل بين المكانة اللاهوتية للخطاب القرآنى من جهة، وبين ما يسميه أركون بالشرط التاريخى واللغوى للعقل الذى يعمل على إنتاج خطابات بشرية ترتكز بشكل مباشر على العقل الالهي. من هنا كان النقد الفلسفى ضروريا من أجل الكشف عن أنماط المعرفة التى تربط بين اللغة والتاريخ والحقيقة.