
تشهد محافظة اللاذقية في سوريا منذ أيام حرائق ضخمة، التهمت مساحات شاسعة من الغابات والغطاء النباتي، واقتربت من المناطق السكنية مهددة حياة المدنيين، وسط صعوبات ميدانية تواجهها فرق الإطفاء بسبب التضاريس، وغياب التخطيط، ووجود مخلفات حرب كالألغام والذخائر غير المنفجرة. لكن مساء السبت 5 يوليو 2025، أخذت هذه الكارثة منحى جديدًا خطيرًا بعد إعلان جماعة "سرايا أنصار السنة" مسؤوليتها عن إشعال الحرائق، في بيان نشرته على تطبيق "تيليجرام"، ما يعيد إلى الواجهة دور الجماعات الإرهابية في استهداف المدنيين بطرق غير تقليدية.
مضمون إعلان التنظيم: الحريق كأداة حرب طائفية
في بيان مصوّر نشرته مؤسسة "دابق" الإعلامية، مساء السبت 5 يوليو 2025، أعلن تنظيم "سرايا أنصار السنة" مسؤوليته عن إشعال الحرائق التي اندلعت في غابات منطقة القسطل بريف اللاذقية يوم 8 محرم. البيان حمل لهجة دعائية متطرفة، واعتبر ما حدث "نصرًا إلهيًا"، متباهياً بقدرة عناصره على التسبب في أضرار ميدانية وإنسانية واسعة، من خلال وسائل غير تقليدية لا تتطلب مواجهات مباشرة أو قتال مسلح، بل تعتمد على التخريب البيئي كوسيلة ضغط وإرباك.
وأشار التنظيم في بيانه إلى أن إشعال الحرائق أدى إلى تمدد النيران نحو مناطق جديدة، ما تسبب بنزوح عدد من المدنيين، الذين وصفهم البيان بـ"النصيرية"، في إشارة طائفية مباشرة إلى أبناء الطائفة العلوية. ولم يتوقف البيان عند إعلان المسؤولية، بل ذهب إلى الإشادة بنتائج الحريق، مؤكدًا أن بعض المدنيين تعرضوا للاختناق نتيجة انتشار الدخان واقتراب ألسنة اللهب من منازلهم. هذا التوصيف لا يترك مجالًا للشك في نية التنظيم استخدام الكارثة كوسيلة لمعاقبة طائفة بعينها، وهو ما يدخل في إطار ما يمكن وصفه بجرائم كراهية منظمة.
البيان يكشف عن وجه جديد للإرهاب في المنطقة، حيث لم يعد يعتمد على الهجمات المسلحة أو التفجيرات، بل بات يوسّع من أدواته لتشمل استهداف البيئة والموارد الطبيعية والمناطق السكنية عبر الحرائق المتعمدة. ويعد هذا التصعيد امتدادًا لنهج سبق أن اتبعته تنظيمات كداعش وجبهة النصرة، التي كثيرًا ما ربطت عملياتها بأبعاد طائفية، مستهدفة المجتمعات المتنوعة دينيًا ومذهبيًا بهدف تفتيتها وإشعال الفتن الأهلية.
الدلالات الأمنية والسياسية لإعلان "سرايا أنصار السنة" :
إعلان "سرايا أنصار السنة" مسؤوليتها عن إشعال الحرائق في ريف اللاذقية لا يُعد مجرد بيان دعائي عابر، بل يمثل تحوّلاً نوعيًا في أساليب عمل الجماعات الإرهابية. فبدلًا من العمليات التفجيرية أو الهجمات المسلحة التي اعتاد عليها الرأي العام، تتجه هذه التنظيمات نحو استخدام أدوات غير تقليدية، تعتمد على إحداث تأثير بيئي ونفسي طويل الأمد. هذا الإعلان يطرح عدة دلالات أمنية وسياسية خطيرة لا بد من التوقف عندها وتحليل أبعادها:
1. تحوّل في أدوات الإرهاب:
يشير بيان الجماعة إلى استخدام الحرائق كوسيلة بديلة عن العمليات المسلحة المباشرة، ما يعكس تحوّلًا استراتيجيًا في أدوات الإرهاب. فبدلاً من استهداف التجمعات الأمنية أو الحواجز العسكرية، أصبح بالإمكان التسبب بكارثة إنسانية واقتصادية عبر إشعال النار في الغابات والمزارع، بما يؤدي إلى تهجير السكان، وتدمير البنية البيئية، واستنزاف قدرات الدولة في الإطفاء والإغاثة.
هذا التحول يعكس قدرة الجماعات الإرهابية على التكيف مع التغيرات الميدانية، واختيار أدوات أقل تكلفة ميدانيًا وأكثر تأثيرًا نفسيًا على المدنيين. كما يشير إلى وعي هذه الجماعات بأهمية الأثر الرمزي والعملي لتخريب البيئة، باعتبارها عنصرًا من عناصر الأمن القومي، خصوصًا في مناطق زراعية وسياحية كاللاذقية تعتمد على الغطاء الأخضر كمصدر للرزق والحياة.
2. رسالة طائفية مضمرة:
لم يخفِ التنظيم في بيانه الطابع الطائفي للعملية، مستخدمًا مصطلح "النصيرية" في وصف ضحاياه، وهو تعبير طائفي تحقيري يشير إلى أبناء الطائفة العلوية. هذه اللغة تكشف النية الحقيقية خلف إشعال الحرائق، إذ لا تهدف فقط إلى التخريب، بل إلى دفع سكان هذه المناطق للنزوح، في محاولة لإحداث تغيير ديمغرافي أو إشعال فتنة طائفية كامنة.
ما يزيد من خطورة هذه الرسالة هو أن ريف اللاذقية يضم مجتمعات مختلطة طائفيًا ومذهبيًا، ما يعني أن أي تصعيد من هذا النوع قد يؤدي إلى ردود فعل انتقامية، وزيادة التوترات بين المكونات المحلية، ما يفتح الباب أمام دوامات عنف جديدة. هذا الاستخدام المتعمد للحرائق كوسيلة "تطهير طائفي" صامت يشكّل تهديدًا مباشرًا للنسيج الاجتماعي الهش في تلك المناطق.
3. استغلال هشاشة الدولة وغياب الاستعداد
استفاد التنظيم من واقع التدهور الإداري والأمني في ريف اللاذقية، حيث تعاني الدولة من نقص كبير في قدرات الاستجابة السريعة للحرائق، وسوء في تجهيزات الدفاع المدني، إضافة إلى غياب خطط استباقية لحماية الغابات. هذا الضعف البنيوي مكّن الجماعة من تنفيذ مخططها التخريبي في منطقة حيوية دون أن تُرصد تحركاتها أو تُمنع الجريمة في مهدها.
الهجوم يكشف كيف باتت الجماعات الإرهابية تراقب عن كثب نقاط الضعف في جهاز الدولة، وتتحيّن اللحظة المناسبة لتوجيه ضربات رمزية قاسية دون تكلفة عسكرية تذكر. وبذلك، فإن الدولة تجد نفسها بين فكي كماشة: الخسارة البيئية من جهة، والانكشاف الأمني من جهة أخرى، ما يعمّق فجوة الثقة بين السكان والسلطات.
4. الإرهاب البيئي:
ما قامت به "سرايا أنصار السنة" يمثل نموذجًا واضحًا لما يُعرف بالإرهاب البيئي، أي استخدام الكوارث الطبيعية المصطنعة كوسيلة من وسائل القتال. هذا النمط من الإرهاب يتجاوز الأهداف العسكرية أو الأمنية التقليدية، ليطال مقومات الحياة الأساسية، كالهواء والماء والغابات، ويهدد الأمن البيئي ككل، ما يضع المجتمعات أمام نوع جديد من الحروب غير المتكافئة.
التعامل مع هذا النوع من التهديدات يتطلب مراجعة شاملة للعقيدة الأمنية، تشمل تدريب قوات خاصة لرصد ومنع هذه الأفعال، وتطوير وسائل إنذار مبكر في المناطق المعرضة للخطر، إضافة إلى إشراك المجتمع المحلي في منظومة الحماية البيئية. فالإرهاب البيئي لا يقتل فورًا، لكنه يخلّف آثارًا طويلة المدى على الصحة والاقتصاد والتماسك الاجتماعي.
عودة التنظيم في توقيت حساس
تُعد جماعة "سرايا أنصار السنة" واحدة من التشكيلات الجهادية ذات الخلفية السلفية المتطرفة، والتي يُعتقد أنها إما امتداد لأطياف من تنظيم القاعدة، أو أنها تشكلت نتيجة انشقاقات وانشطارات داخل الجماعات الجهادية الكبرى التي نشطت في سوريا خلال السنوات الماضية، مثل "جبهة النصرة" أو "داعش". وعلى الرغم من أن ظهور هذه الجماعة لم يكن واسع النطاق سابقًا، إلا أنها عُرفت بخطابها الطائفي الحاد، واعتمادها على نشر رسائل الكراهية والتحريض عبر وسائل إعلام بدائية ولكنها فعالة ضمن بيئات مشحونة.
ما يلفت الانتباه هو أن إعلان التنظيم عن مسؤوليته عن حرائق اللاذقية لم يأتِ في ظروف اعتيادية، بل في توقيت دقيق تمر فيه المنطقة الساحلية السورية بأزمات متداخلة. فالريف الغربي السوري يعاني من تدهور بيئي كبير، وشح في الموارد، وانكماش اقتصادي حاد نتيجة العقوبات وتراجع الإنتاج الزراعي. هذه البيئة المأزومة تشكل أرضًا خصبة للجماعات المتطرفة، التي تستغل الانهيارات المجتمعية والنفسية لتحقيق اختراقات سريعة، سواء عبر بث الرعب أو استقطاب أتباع جدد.
إن عودة "سرايا أنصار السنة" إلى الواجهة في هذا التوقيت تحمل دلالة استراتيجية، فهي ليست مجرد استعراض للقوة أو بيان معنوي، بل تعكس نية واضحة للدخول مجددًا على خط الأزمة السورية عبر أدوات جديدة، أقل تكلفة عسكريًا، وأكثر تأثيرًا مجتمعيًا. استخدامهم للحرائق كوسيلة لإحداث ضرر مركب – بيئي وإنساني وطائفي – يشير إلى تطور في التفكير التخريبي لهذه الجماعات، ويؤكد ضرورة التعامل معها ليس فقط كتهديد أمني مباشر، بل كفاعل يسعى لإعادة إنتاج الفوضى في الهامش، تمهيدًا لتوسيع حضوره في قلب المشهد السوري.
كيف توظّف التنظيمات الكوارث في خدمة خطابها؟
يعكس نشر بيان "سرايا أنصار السنة" عبر مؤسسة "دابق" الإعلامية عودة ملحوظة لنشاط القنوات الدعائية التابعة للتيارات الجهادية، بعد فترة من التراجع والانحسار الذي أعقب الهزائم الميدانية الكبرى لتنظيم داعش في سوريا والعراق. هذا الاستخدام الإعلامي ليس عفويًا، بل هو جزء من استراتيجية مدروسة تستثمر الكوارث – سواء كانت طبيعية أو مفتعلة – كمناسبات لإعادة بث الرسائل التحريضية، واستنهاض الحواضن الفكرية المحتملة، والتذكير بوجود التنظيم وقدرته على التأثير.
البيان الذي بثته "دابق" لم يأتِ في صيغة خبرية محايدة، بل صيغ بلغة تبشيرية تعبّر عن "الفرح بالنصر"، وتستحضر مفردات دينية تحفز الأتباع وتربط العمل التخريبي بمفاهيم الجهاد والانتصار الإلهي. هذا الأسلوب في الخطاب يُستخدم لرفع معنويات أنصار التنظيم، لا سيما في فترات التراجع والانكسار، كما أنه يهدف إلى الإيحاء بأن الجماعة ما زالت تمتلك زمام المبادرة وقادرة على إحداث الأذى للخصوم، ولو بوسائل غير تقليدية.
ولا يخفى أن عودة هذا النوع من الإعلام الجهادي تشكّل تهديدًا بحد ذاتها، إذ يسهم في إعادة تدوير الأفكار المتطرفة وترويج نماذج "العمليات الناجحة"، كما يعيد بناء شبكة التأثير الدعائي التي استخدمتها التنظيمات سابقًا في تجنيد المقاتلين وتبرير العنف. ومن هنا، فإن مواجهة هذا النوع من الخطاب لا يجب أن تكون أمنية فقط، بل إعلامية وثقافية أيضًا، عبر فضح التلاعب بالمصطلحات، وتفكيك المنطق الدعائي، وتقديم سرديات بديلة تفضح زيف "الانتصارات" التي يدّعيها هذا التيار.
الخاتمة: ما الذي يجب فعله؟
إعلان "سرايا أنصار السنة" مسؤوليتها عن حرائق اللاذقية يحوّل كارثة بيئية إلى حدث أمني من الدرجة الأولى. هذا يتطلب:
تحقيقًا عاجلًا من السلطات المحلية والدولية في صحة هذا الإعلان ومصدر الحريق.
تعزيز التنسيق الأمني بين الدفاع المدني والأجهزة الاستخباراتية لرصد النشاطات التخريبية في الغابات والمناطق الحساسة.
توسيع مفهوم مكافحة الإرهاب ليشمل حماية الموارد البيئية والبنية التحتية الحيوية.
مواجهة الخطاب الطائفي إعلاميًا وثقافيًا، لمنع إعادة إنتاج الكراهية التي تبرر الإرهاب.
إن الخطر الذي تمثّله جماعات كهذه لم يعد محدودًا بالسلاح التقليدي، بل بات يتسلل عبر الرياح والدخان وألسنة اللهب، ما يفرض على المجتمع الدولي إعادة النظر في خرائط التهديد ووسائل مواجهته.