برزت تساؤلات عديدة مؤخرًا حول قدرة أمريكا على محاكمة أي رئيس سواء سابق أو حالي، فقد دخلت القضية المرتبطة بمحاولة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قلب نتائج انتخابات 2020 في ولاية جورجيا، والتي تُعد آخر قضية جنائية كبرى معلّقة ضده، مرحلة غير مسبوقة بعد قرار المحكمة العليا في الولاية رفض الاستئناف الذي تقدمت به المدعية العامة لمقاطعة فولتون فاني ويليس، والتي جرى استبعادها رسميًا من متابعة الملف بسبب شبهات "تعارض المصالح" المرتبطة بعلاقتها مع المدعي الخاص الذي عيّنته سابقًا. وبذلك، يبقى الملف بلا مدعٍ عام يقوده حتى إشعار آخر، فيما بدأت السلطات القضائية في جورجيا تحركات لاختيار بديل يتولى القضية الحساسة، وفقا لصحيفة جورجيا ريكوردر.

هذا التطور لم ينهِ الجدل بل زاد من تعقيداته، إذ اعتبر أنصار ترامب أن استبعاد ويليس يبرهن على أن القضية ذات دوافع سياسية وليست قضائية، بينما شدد خصومه على ضرورة المضي قدمًا في المحاكمات لضمان عدم إفلات أي شخص ـ حتى رئيس سابق ـ من المساءلة. ويأتي ذلك بينما يواصل ترامب الترويج لروايته بأن هذه القضايا ليست إلا جزءًا من "حملة مطاردة سياسية" تهدف إلى تقويض حكمه بل ووجوده في الساحة السياسية، خصوصًا مع بدء استعدادات الجمهوريين المبكرة لانتخابات 2028.
من الناحية القانونية، يمثل قرار المحكمة العليا سابقة لافتة، حيث رأى القضاة أن مراجعة قرار محكمة الاستئناف سيكون بمثابة "تصحيح خطأ محدود" لا يرقى إلى قضية ذات أهمية قصوى في منظومة القضاء بالولاية. وقد أشار القاضي أندرو بنسون، الذي كتب الرأي الغالب في قرار 4-3، إلى أن معيار "المظهر العام لعدم النزاهة" الذي استندت إليه محكمة الاستئناف لتجريد ويليس من القضية لا يستدعي تدخل المحكمة العليا لفرض تفسير أشمل. هذا التوجه أثار نقاشًا واسعًا بين خبراء القانون حول حدود مبدأ "تعارض المصالح" وما إذا كان يمكن أن يشكل أساسًا كافيًا لاستبعاد المدعين العموميين في قضايا مستقبلية.
وفي ظل غياب ويليس، ينتقل العبء الآن إلى مجلس الادعاء في جورجيا، الذي يقوده بيتر سكاندالاكس، والذي أكد أن عملية تعيين مدعٍ جديد بدأت بالفعل، لكنها ستتم وفق إجراءات دقيقة تراعي حساسية القضية. وأوضح أن المجلس لن يتعجل الإعلان عن اسم المدعي الجديد قبل استكمال جميع الترتيبات، في إشارة إلى أن البحث عن شخصية "محايدة ومستقلة" سيكون أولوية قصوى لضمان نزاهة المسار القضائي.
أما على الصعيد السياسي، فقد وجدت التطورات صدى واسعًا في أوساط الحزبين. فالجمهوريون اعتبروا أن ويليس أهدرت أموال دافعي الضرائب على ما وصفوه بأنه "تحقيقات مسيّسة" ضد مواطنين أبرياء، ودعوا إلى محاسبتها على "الأخطاء المهنية".
على الجانب الآخر، شدد الديمقراطيون على أن القضية أكبر من شخص ويليس، وأن المطلوب الآن هو حماية مسار المحاكمة حتى تصل إلى خواتيمها الطبيعية، مؤكدين أن أكثر من أربعة متهمين من أصل 19 في هذه القضية قد اعترفوا بالذنب بالفعل، ما يعزز الحاجة إلى استمرار الإجراءات.
إلى جانب ذلك، يلوح في الأفق بعد جديد يزيد من تعقيد الصورة هو دون شك عودة ترامب إلى البيت الأبيض في يناير الماضي، فوجوده في المنصب التنفيذي الأعلى يجعل من الصعب، وربما المستحيل، عقد محاكمة ضده أثناء ولايته، وفق ما يذهب إليه خبراء قانونيون. ومع ذلك، تبقى إمكانية محاكمة بقية المتهمين قائمة، مثل رودي جولياني، محامي ترامب السابق، وكبير موظفيه مارك ميدوز، ما يعني أن الملف قد يتجزأ بين متهم رئيسي محصّن سياسيًا وآخرين معرضين للحكم القضائي.
لكن الجدل القانوني لم يتوقف عند حدود استبعاد ويليس فقط، بل تجاوزه إلى تساؤلات أعمق حول القوانين الجديدة في جورجيا، التي تتيح للمتهمين المطالبة باسترداد تكاليف الدفاع إذا جرى استبعاد الادعاء بسبب سوء سلوك شخصي أو مهني. هذه التشريعات التي استُلهمت من قضية ترامب تحديدًا، أثارت مخاوف قانونيين من أن تصبح "أداة ضغط" على المدعين العموميين وتفتح الباب أمام استغلال سياسي متكرر.
وتبدو قضية جورجيا مرشحة للبقاء في صدارة المشهد السياسي والقانوني الأمريكي لسنوات قادمة، خاصة أنها باتت تمثل نقطة التقاء بين معارك القضاء وصراع الانتخابات.
فهي من ناحية قضية جنائية معقدة حول نزاهة التصويت، ومن ناحية أخرى أداة سياسية يستخدمها ترامب لتصوير نفسه كضحية "استهداف مؤسسي"، بينما يحاول خصومه إثبات العكس تمامًا. وبين هذا وذاك، يجد القضاء الأمريكي نفسه مرة أخرى في قلب معركة يتجاوز صداها حدود المحاكم إلى الشارع والرأي العام الأمريكيين.