شقاء طوال اليوم بلا جدوى!

أحمد «مهندس»: عجزت عن دفع إيجار الشقة واشتغلت «دليفرى أون لاين»
عبدالله: الصبح «موظف» وبعد الضهر «ميكانيكى»
«على» باع ذهب زوجته واشترى سيارة للعمل عليها
لم يعد الاكتفاء بوظيفة واحدة كافيًا لتلبية احتياجات الأسر المصرية، فى ظل الارتفاع الجنونى فى الأسعار وتزايد الأعباء المعيشية بشكل غير مسبوق. فالموظف الذى كان راتبه يكفيه قبل سنوات لتغطية مصاريفه الأساسية، أصبح اليوم مضطرًا لإيجاد مصادر دخل إضافية، سواء من خلال العمل الجزئى أو الاتجاه نحو العمل الحر. هذه الظاهرة لم تعد حكرًا على الشباب أو العاملين فى القطاع الخاص فحسب، بل امتدت لتشمل موظفين حكوميين، وأطباء، ومهندسين، وحتى معلمين، جميعهم يبحثون وراء «رزق إضافى» يعينهم على مواجهة متطلبات الحياة اليومية.
فى شوارع القاهرة والجيزة والمحافظات، تجد مشاهد تكشف هذه التحولات، موظف فى إحدى الوزارات يتحول بعد ساعات العمل إلى سائق «أوبر»، ومعلم لغة عربية يعطى دروسًا أون لاين عبر المنصات التعليمية، ومهندسة فى شركة كبرى تدير متجرًا إلكترونيًا لبيع المنتجات، وطالب جامعى يعمل فى التسويق إنها ملامح لواقع جديد، يكشف كيف أصبح «العمل الثانى» ضرورة وليس رفاهية.
ورغم أن «العمل الثانى» له منافع الاقتصادية واضحة، ولكن يتم طرح تساؤلات حول ثمنه الباهظ على الصعيد النفسى والاجتماعى والمهنى فهل أصبحت الوظيفة الثانية ضرورة حتمية أم أنها عبء جديد يثقل كاهل جيل كامل؟
رصدت «الوفد» آراء عدد من الشباب حول تجاربهم مع الوظيفة الإضافية يقول أحمد (29 عامًا، مهندس): «راتبى كمهندس فى شركة بالكاد يكفى لقسط السيارة والإيجار اشتغلت سائق فى تطبيقات التوصيل عبر الإنترنت كعمل جزئى، اليوم أصبح متعب جدًا، لكن بدون العمل الإضافى، سأعيش فى عجز دائم».
أما سارة (26 عامًا، معلمة) فتقول: «أعمل فى تدريس خصوصى عبر الإنترنت، والدخل الذى أحصل عليه من هذه الدروس يساوى راتبى الأساسى هذا الدخل الإضافى هو الذى يمكننى من الالتزام بالاحتياجات الأساسية والقدرة على المعيشة بكرامة».
وكان لخالد (32 عامًا، موظف) رأى آخر فيقول: «جربت العمل فى مجال التسويق بالعمولة، لكنه كان مجهدًا نفسيًا كنت أفكر بالعمل طوال الوقت. تخليت عنه لأن صحتى أهم. الآن أركز على تطوير مهاراتى فى الوظيفة الأساسية لأحصل على ترقية بدلاً من البحث عن دخل آخر».
منى على، ربة منزل تشير إلى أنها بدأت مشروعًا منزليًا صغيرًا فى صناعة المخبوزات وبيعها للجيران والمحال القريبة، مؤكدة: «الفكرة أن أى ست ممكن تستغل مهارتها فى الأكل أو الخياطة وتكسب منها من غير ما تحتاج تشتغل أون لاين».
محمد عبدالله، عامل فنى، يوضح أنه يعمل مساءً فى ورشة ميكانيكا بعد انتهاء عمله فى شركة خاصة، قائلاً: «المجال ده محتاج مجهود بدنى، بس المكسب فيه مضمون، وكل زبون بيرجعلك تانى».
عمرو فتحى، شاب جامعى، يعمل فى توصيل الطلبات بجانب دراسته، موضحًا: «الشغل بالساعة مناسب لظروفى، بقدر أختار الأوقات اللى متاحة بالنسبة لى».
اما على فهو موظف بإحدى الشركات يقول:انا مسئول عن نفسى وما زلت طالبًا بالجامعة، لكننى أعمل فى نفس الوقت (كول سنتر) ولأن كل شىء أصبح غاليًا جدا اضطررت لبيع ذهب أمى واشتريت سيارة (نص عمر) وأعمل عليها أوبر ليلًا، حتى أساعد أمى فى مصاريف البيت وأساند نفسى لتكملة دراستى.
رفع الأجور ضرورة لمواجهة التضخم
فى تصريح خاص لـ«الوفد» أكدت الدكتورة هدى الملاح، مدير عام المركز الدولى للاستشارات الاقتصادية ودراسات الجدوى، أن الأسباب الاقتصادية التى تدفع الشباب المصرى للبحث عن وظيفة ثانية عديدة ومعقدة، يأتى فى مقدمتها عدم التوافق بين المؤهل العلمى وسوق العمل، بجانب ضعف الرواتب وارتفاع تكاليف المعيشة.
وأوضحت أن كثيرًا من الشباب يلتحقون بأول وظيفة متاحة عقب التخرج دون امتلاك خبرة كافية، وغالبًا ما تكون هذه الوظيفة بعيدة عن طموحاتهم أو غير مناسبة لتخصصهم، الأمر الذى يدفعهم سريعًا للبحث عن فرصة عمل أخرى تحقق لهم قدرًا من الاستقرار المهنى والرضا النفسى. وتضيف: «الشاب قد يتجه لوظيفة ثانية إذا شعر بأن بيئة العمل الحالية غير مناسبة أو أنها لا تضيف إلى خبراته شيئًا، أو إذا افتقد وجود فرص للتطور والترقى والتدريب المهنى، فضلًا عن ضعف الحوافز والمكافآت مقارنة بالجهد المبذول».
وعن تأثير التضخم وارتفاع الأسعار على أنماط إنفاق الشباب، أوضحت الملاح أن الأمر أصبح أكثر صعوبة، إذ لم تعد الأجور تواكب معدلات التضخم المتسارعة.
وقالت: «قد تجد وظيفة متاحة براتب ألفين أو ثلاثة آلاف جنيه، لكن هذا المبلغ لا يغطى حتى فواتير الكهرباء والغاز والمياه، فكيف يمكن لشاب بهذا الدخل أن يبدأ أسرة أو يؤسس حياة مستقرة؟».
وأضافت أن التضخم أدى إلى تآكل القوة الشرائية للجنيه، وانخفاض قيمة المرتبات أمام احتياجات المعيشة المتزايدة، ما دفع المستهلكين لتغيير سلوكهم الشرائى، فبدلًا من شراء منتجات بأسعار مرتفعة، يتجهون إلى بدائل أرخص لتغطية الاحتياجات الأساسية هذا الوضع انعكس بدوره على بيئة العمل، حيث يعانى كثير من الموظفين من عدم الرضا النفسى نتيجة شعورهم بأن دخلهم لا يتناسب مع جهدهم، وهو ما يؤثر سلبًا على الإنتاجية وجودة العمل، وبالتالى على الاقتصاد المحلى والصادرات.
ترى «الملاح» أن هناك علاقة طردية بين تدهور القوة الشرائية للجنيه وزيادة الإقبال على العمل الإضافى، فكلما تراجعت قيمة العملة وارتفعت الأسعار، لجأ الأفراد إلى وظيفة ثانية لتغطية احتياجاتهم الأساسية.
وأشارت إلى أن هذا التوجه يدفع كثيرًا من الشباب للتخلى عن مظاهر الترفيه والإنفاق على الكماليات، والتركيز فقط على تغطية أساسيات الحياة.
ولفتت إلى أن هذا الاتجاه يفتح الباب أمام توسع الاقتصاد غير الرسمى، من خلال لجوء البعض إلى أعمال جزئية أو مشروعات صغيرة غير مقننة، ما يخلق بدوره تحديات جديدة أمام الدولة فى تنظيم سوق العمل.
ورغم أن العمل الإضافى يحقق دخلًا أكبر ويساعد على مواجهة أعباء المعيشة، فإن الملاح تؤكد أنه ليس حلًا طويل الأمد، بل مجرد وسيلة اسعافية لها آثار اجتماعية سلبية. وتوضح: «الوظيفة الثانية قد تحسن الدخل لكنها تضر بالصحة نتيجة قلة النوم والإجهاد المستمر، كما تؤدى إلى تفكك أسرى لبُعد رب الأسرة عن أولاده وزوجته، فضلًا عن انخفاض الإنتاجية فى الوظيفة الأساسية».
وعن السياسات الحكومية المطلوبة لتقليل حاجة الشباب لوظيفتين، شددت الملاح على ضرورة تطبيق إصلاحات اقتصادية واجتماعية متوازنة، تبدأ برفع الحد الأدنى للأجور وربطه بمعدلات التضخم، وإعادة العمل بنظام العلاوات السنوية بشكل يواكب ارتفاع الأسعار كما دعت إلى التوسع فى المبادرات القومية ومشروعات الإسكان الاجتماعى بما يتناسب مع دخول الشباب، وتشجيع التدريب المهنى لرفع الكفاءات.
وأضافت: «لا بد من مواجهة الاقتصاد غير الرسمى الذى يلتهم السوق، وتحسين بيئة الاستثمار لتشجيع الإنتاج المحلى، مع إعادة هيكلة النظام الضريبى ليكون تصاعديًا وفقًا لمستوى الدخل كل هذه السياسات إذا أعيد ترتيبها بشكل صحيح ستسهم فى خلق سوق عمل متوازن، وتوفر فرصًا أفضل للشباب بعيدًا عن الحاجة إلى وظيفتين».
الجمع بين أكثر من وظيفة أصبح ضرورة
من جانبها، ترى الدكتورة سامية خضر، أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس، فى تصريح خاص لـ«الوفد»، أن الجمع بين أكثر من وظيفة لم يعد خيارًا استثنائيًا فى حياة الشباب، بل أصبح أمرًا شبه ضرورى فى ظل الظروف الاقتصادية الضاغطة وارتفاع تكاليف المعيشة. لكنها تؤكد أن هذه الظاهرة تحمل أبعادًا مزدوجة، فبينما تمنح الشباب خبرات متنوعة ومهارات أوسع، قد تتحول فى بعض الحالات إلى عبء نفسى وصحى إذا لم تُدار بشكل متوازن.
تقول خضر: «العمل فى حد ذاته عبادة، والشباب غير المرتبط بمسؤوليات أسرية يستطيع أن يجمع بين عمل أساسى وآخر إضافى دون مشكلات كبيرة بل على العكس، فإن هذه التجربة تمثل إثراءً لحياته وفرصة لاكتساب الوعى والثقافة المهنية، فضلًا عن أنها توسع مداركه وتدربه على إدارة الوقت بشكل أفضل».
وترى الخبيرة أن المرحلة التى تسبق الزواج وتكوين الأسرة هى الأنسب لخوض الشباب تجربة العمل المتعدد، حيث لا يتحمل الفرد بعد التزامات كبيرة تجاه الزوجة أو الأبناء. وتضيف: «حين يكون الشاب فى بداية حياته المهنية، فإن العمل صباحًا ومساءً يمنحه مرونة فكرية وخبرة عملية، ويمثل إضافة حقيقية لشخصيته، لأنه يفتح أمامه آفاقًا جديدة للتعلم واكتساب المهارات المختلفة، كما يعزز ثقته بنفسه ويؤهله للتعامل مع ضغوط الحياة مستقبلاً».
وتضرب مثالًا بمهن مثل الطب أو المحاماة، حيث يضطر كثير من الأطباء للعمل فى المستشفى صباحًا ثم فتح عياداتهم الخاصة مساءً، أو المحامين الذين يجمعون بين قضايا المكتب والعمل فى قضايا أخرى. وتشير إلى أن هذا النموذج يثبت أن العمل الإضافى قد يكون وسيلة طبيعية للنمو المهنى وتحقيق الاستقرار المادى.
لكن الصورة ليست وردية دائمًا فبحسب أستاذة علم الاجتماع، تتحول الإيجابيات إلى ضغوط نفسية وصحية إذا كان الفرد متزوجًا أو لديه أبناء يحتاجون إلى رعاية. وتقول: «عندما ينشغل الزوج بالعمل صباحًا ومساءً، قد تعانى الأسرة من غيابه، وهو ما ينعكس على علاقته بزوجته وأولاده. كما أن الضغط المستمر بلا فترات راحة قد يؤدى إلى التوتر أو ما يعرف بالاكتئاب الوظيفى، خاصة إذا ترافق مع أزمات عائلية أو مسئوليات إضافية مثل رعاية والد مريض أو ظروف اجتماعية طارئة».
وتوضح أن غياب وقت الراحة والرفاهية قد يعزز من الإحباط وفقدان الشغف بالحياة، لكن الحل لا يكمن فى التوقف عن العمل الإضافى بشكل كامل، بل فى تحقيق التوازن وإيجاد مساحة للراحة النفسية والجسدية.
وتشير خضر إلى أن أحد التحديات الأساسية فى المجتمعات العربية هو ضعف ثقافة الاعتماد على النفس لدى الشباب. وتضيف: «فى الدول الغربية، يتم تدريب الأبناء منذ الصغر على العمل المجتمعى والتطوعى خلال العطلات الصيفية، سواء بالعمل فى المكتبات أو المشاركة فى أنشطة الجمعيات الأهلية أو زيارة دور المسنين. هذه الممارسات تغرس فيهم روح المسؤولية والانتماء وتكسبهم مهارات حياتية مهمة».
وتستشهد بتجربتها الشخصية، حيث شجعت ابنها منذ صغره على العمل البسيط فى مكتبة لمساعدته على الاحتكاك بالحياة العملية، مؤكدة أن هذه التجارب تصقل شخصية الأبناء وتربى فيهم الاستقلالية، فى حين أن الحماية الزائدة التى يمارسها كثير من الآباء والأمهات فى المجتمعات العربية تحرم أبناءهم من هذه الخبرة.
وتختتم أستاذة علم الاجتماع حديثها بالتأكيد أن العمل الإضافى فى سن الشباب، قبل الانخراط فى التزامات الزواج والأبناء، يمثل «ثراءً فكريًا وتجربة حياتية بالغة الأهمية». وتوضح أن الشاب الذى يعمل فى أكثر من مجال يتعلم الانضباط والالتزام ويدرك معنى المسؤولية، وهو ما يسهم فى تكوين شخصية ناضجة قادرة على مواجهة تحديات المستقبل.
وتقول: «الحياة ليست كلها رفاهية أو راحة، وإنما هى مزيج من الجهد والتجربة. ومن يجمع بين أكثر من عمل فى سن مبكرة لا يخسر، بل يربح وعيًا وخبرة تؤهله لمرحلة أكثر استقرارًا عندما يبدأ بتكوين أسرته».