تترقب الأوساط السياسية والاقتصادية في فرنسا باهتمام بالغ يوم الاثنين المصيري، حيث يواجه رئيس الوزراء فرانسوا بايرو تصويتًا حاسمًا على سحب الثقة.
هذا الحدث، الذي يُنظر إليه على أنه تحصيل حاصل لفقدان بايرو للأغلبية البرلمانية، يهدد بإغراق ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو في دوامة من الأزمات السياسية غير المسبوقة.
لم يكن وصول البلاد إلى هذا المنعطف الحرج وليد اللحظة، بل هو تتويج لسلسلة من القرارات والتحديات التي عصفت بالمشهد السياسي الفرنسي.
وفقا لموقع إذاعة راديو فرانس إنترناسيونال، فإن ما يحدث الآن ليس مجرد أزمة حكومية عابرة، بل هو انعكاس عميق لضعف السلطة التنفيذية في مواجهة برلمان منقسم.
في قلب الأزمة: من المقامرة السياسية إلى المأزق الاقتصادي
بدأت فصول هذه الأزمة عندما راهن الرئيس إيمانويل ماكرون في عام 2024 على إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، في خطوة وصفت بأنها "مغامرة" غير محسوبة النتائج.
ماكرون كان يهدف إلى استعادة الأغلبية البرلمانية المطلقة التي فقدها، لكن النتائج جاءت على عكس توقعاته تمامًا، لتُفرز برلمانًا مجزأً بثلاث كتل سياسية رئيسية، لم يتمكن أي منها من حيازة أغلبية صريحة.
هذا التجزؤ السياسي أضعف بشكل كبير من قبضة ماكرون على السلطة التشريعية وجعل من عملية تمرير التشريعات مهمة شبه مستحيلة.
وتفاقمت هذه المعضلة السياسية بسبب تدهور الوضع المالي للبلاد. فقد تضخم الدين العام الفرنسي بشكل هائل، متأثرًا بإجراءات الإنقاذ الاقتصادي الضخمة التي اتخذتها الحكومة لمواجهة جائحة كوفيد-19 وتداعيات أزمة غلاء المعيشة. ونتيجة لذلك، ارتفع الدين العام إلى 113.9% من الناتج المحلي الإجمالي، وتجاوز العجز المالي في العام الماضي بكثير الحدود المسموح بها في الاتحاد الأوروبي، حيث وصل إلى ضعف الحد الأقصى المسموح به تقريبًا.
هذا الوضع المالي المتردي جعل فرنسا تحت ضغط كبير من شركائها الأوروبيين لإصلاح أوضاعها المالية المترهلة.
وفي محاولة يائسة لمعالجة هذه الأزمة، قدم فرانسوا بايرو، السياسي المخضرم من يمين الوسط الذي تولى منصب رئيس الوزراء للمرة الرابعة في عهد ماكرون، ميزانية تقشفية لعام 2026.
الميزانية تضمنت خطة لخفض الإنفاق العام وتوفير ما يقرب من 44 مليار يورو، بشكل أساسي من خلال تقليص النفقات الحكومية وإلغاء عطلتين رسميتين.
أثارت هذه المقترحات استياء واسعًا من مختلف أطياف المعارضة، التي رأت فيها إجحافًا بحقوق المواطنين. عجز بايرو عن تأمين الدعم اللازم لتمرير هذه الميزانية في البرلمان، ما دفعه في شهر أغسطس الماضي إلى الإعلان عن تصويت على سحب الثقة، في خطوة وصفتها المعارضة بـ "الانتحار السياسي".
وقد أكدت جميع أحزاب المعارضة، التي تملك الأغلبية العددية في البرلمان، عزمها الكامل على التصويت ضد حكومته لإسقاطها.
توقعات اليوم الموعود: خطاب وداع ومصير مجهول
ستجتمع الجمعية الوطنية في الساعة 15:00 (13:00 بتوقيت جرينتش) ليوم الاثنين، وسيفتتح بايرو الجلسة بخطاب يلقيه على النواب.
ومع يقينه بأن هزيمته شبه مؤكدة، فمن المرجح أن يكون خطابه بمثابة بيان رسمي لمواقفه ورؤاه السياسية، وربما تمهيدًا لمستقبله السياسي إذا قرر الترشح للرئاسة في عام 2027، بدلًا من أن يكون محاولة يائسة لإقناع المشرعين.
بعد خطابه، ستبدأ الكتل البرلمانية العشر بالرد تباعًا، قبل أن تبدأ عملية التصويت. ستتم العملية بسرية تامة، حيث سيقوم كل عضو بإلقاء ورقة اقتراعه في جرة.
وتعتمد النتيجة على الأغلبية المطلقة للأصوات المدلى بها، وليس على إجمالي عدد مقاعد البرلمان البالغ 577. وإذا خسرت الحكومة، كما هو متوقع، سيتعين على بايرو أن يقدم استقالته إلى الرئيس ماكرون، لتكون بذلك نهاية حكومته.
ومن المتوقع أن تظهر النتائج في وقت متأخر من المساء.
السيناريوهات المحتملة لما بعد التصويت: بين التعيين والانتخابات
في حال سقوط حكومة بايرو، فإن الكرة ستكون في ملعب ماكرون بالكامل، وسيتعين عليه الاختيار بين ثلاثة خيارات رئيسية: تسمية رئيس وزراء جديد، أو الدعوة إلى انتخابات مبكرة، أو الاستقالة بنفسه. حتى الآن، يظهر الرئيس مقاومة واضحة لفكرة إجراء انتخابات مبكرة، ويبدو أنه يميل بشكل أكبر نحو البحث عن رئيس وزراء جديد.
قد يكون المرشح الجديد من يسار الوسط، خاصة بعد فشل أربعة من رؤساء الوزراء من يمين الوسط في إدارة البرلمان المنقسم.
هناك أيضًا خيار تعيين تكنوقراطي، وهو ما قد يوفر حلًا مؤقتًا للأزمة. لا توجد قواعد دستورية تحكم اختيار ماكرون، ولا تحدد الوقت الذي يمكن أن يستغرقه لاتخاذ قراره. وإذا قرر ماكرون التروي في اتخاذ القرار، فقد يظل بايرو في منصبه كرئيس وزراء مؤقت، كما حدث مع حكومة بارنييه السابقة.
من ناحية أخرى، تضغط الأحزاب المعارضة، مثل حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف وحزب فرنسا المتمردة اليساري المتشدد، بقوة من أجل إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، بل ويطالبون باستقالة ماكرون نفسه، وهو الخيار الذي استبعده الرئيس تمامًا. وفقًا لمصادر مقربة من ماكرون، فإن حل البرلمان لن يحل الأزمة، بل سيعقدها.
وأكد مصدر حكومي أن إجراء انتخابات مبكرة ليس مطروحًا في الوقت الحالي، مضيفًا أن أسماء مثل وزير المالية إريك لومبارد، ورئيس الوزراء الاشتراكي السابق برنار كازنوف، ورئيس محكمة الحسابات بيير موسكوفيتشي، هي من بين الخيارات المحتملة لرئيس الوزراء القادم.
شهر حافل بالتحديات: ما بعد الأزمة السياسية
بعيدًا عن مصير الحكومة، فإن فرنسا مقبلة على شهر حافل بالأحداث التي تزيد من حالة التوتر السياسي والاجتماعي:
10 من هذا الشهر: تخطط حركة "Bloquons Tout" (لنُوقف كل شيء) الشعبية، والتي انتشرت بشكل واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لتنظيم احتجاجات على مستوى البلاد.
12 من هذا الشهر: تترقب البلاد نتائج تقرير وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، حيث من المحتمل أن يتم تخفيض تصنيف فرنسا إذا ما استمرت الأزمة السياسية في التفاقم.
18 من هذا الشهر: تستعد النقابات العمالية لتنظيم إضرابات واحتجاجات واسعة في مختلف أنحاء البلاد، وذلك احتجاجًا على السياسات الحكومية.