تشير نتائج المسح الصحي للأسرة المصرية لعام 2021 إلى أن مصر تحتل المرتبة الأولى عالميًا في معدلات الولادة القيصرية بنسبة تصل إلى 72%، وهي نسبة صادمة تتجاوز المعدلات الموصى بها عالميًا بأضعاف، لتدق ناقوس الخطر. هذه ليست مجرد أرقام طبية عابرة، بل إنذار استراتيجي يستدعي التدخل العاجل بحلول شاملة تُحمّل المنظومة الصحية بالكامل المسؤولية وليس الأطباء وحدهم.
وبحسب توصية منظمة الصحة العالمية (WHO) في عام 2015، فإن الهدف ليس مطاردة الأرقام أو خفض المعدلات بشكل أعمى، بل ضمان أن تُجرى القيصرية فقط للنساء اللاتي يحتجنها بالفعل حفاظًا على حياة الأم والجنين. الرسالة واضحة: ليست القضية في تقليل النسبة بأي ثمن، بل في أن يكون القرار الطبي قرارًا رشيدًا قائمًا على الدليل العلمي، حيث تُجرى القيصرية خيارًا لإنقاذ الحياة لا مجرد وسيلة سهلة للولادة.
حين يتحول الاستثناء إلى قاعدة
في الطب، تُعد القيصرية عملية جراحية كبرى وخيارًا أكثر تعقيدًا مقارنة بالولادة الطبيعية. لكن في مصر، أصبحت الخيار الأسهل والأسرع، والسبب الأساسي هو تراجع كفاءة تدريب الأطباء الجدد على مهارات التوليد الطبيعية وفنونها الدقيقة، مثل استخدام الجفت والشفاط وإدارة تعسر الولادة.
الحل هنا يتطلب قرارًا سياسيًا جريئًا بإطلاق برنامج وطني شامل لإعادة تأهيل الأطباء باستخدام أحدث تقنيات التدريب والمحاكيات الطبية (Simulators)، مع اعتمادات إلزامية قبل الترخيص وتجديده. هذه ليست رفاهية بل استثمار وطني في أمن الأم والجنين وجودة الرعاية الصحية.
معركة الثقة بين الطبيب والمجتمع
اليوم يقف الطبيب في مواجهة المريضة وأسرتها… والقانون! حتى مع الالتزام بأحدث البروتوكولات العلمية، يجد كثير من الأطباء أنفسهم يلجأون إلى القيصرية باعتبارها "الخيار الآمن" قانونيًا.
الحل ليس في اتهام الطبيب، بل في إصلاح المنظومة القانونية عبر إصدار إرشادات وطنية قياسية وملزمة تطبق في جميع المستشفيات، وتوحيد نماذج الموافقة المستنيرة لضمان الشفافية مع الأسر، وتوفير مظلة قانونية للأطباء الملتزمين بالبروتوكولات تحميهم من الملاحقات غير العادلة. بهذه الخطوات ننتقل من مرحلة "اتهام الطبيب" إلى مرحلة بناء الثقة، وهي أساس أي إصلاح ناجح.
أمن صحي وطني
القضية أكبر من كونها نسبًا وإحصاءات، إنها قضية أمن صحي وطني تمس حاضر مصر ومستقبلها. خفض نسب القيصرية ليس خيارًا طبيًا فقط، بل قرار دولة يهدف إلى حماية صحة الأم المصرية والحفاظ على رأس المال البشري وتأمين مستقبل الأجيال القادمة.
وعندما نوفر تدريبًا لا اجتهادًا، بروتوكولات لا مزاجًا، وعدالة قانونية لا شماعات، سنمكّن الطبيب من اتخاذ القرار الصائب، ونشعر جميعًا بالأمان والثقة في مسار الولادة.
وهكذا تتحول معركة القيصرية في مصر من جدل حول الأرقام إلى معركة وعي وقرارات استراتيجية، تضع حجر الأساس لبناء أجيال قوية قادرة على المنافسة عالميًا وصناعة المستقبل. هذه ليست معركة أطباء فقط… إنها معركة وعي وقرارات استراتيجية.