في ساحة المعركة السياسية الحديثة، لم تعد الخطب الرسمية أو المناظرات التقليدية هي الأسلحة الوحيدة المتاحة، فقد تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى ميادين جديدة للمواجهة، يتقاتل فيها الخصوم بنشر الصور الكاريكاتيرية والميمز" (Memes) الساخرة، بل ومقاطع الفيديو المعدلة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، في حرب كلامية أكثر حدة وإثارة.
وقالت مجلة نيوزويك إن هذا الدور الذي باتت تلعبه السوشيال ميديا قد تجسد بحذافيره في سياق الصراع المتصاعد بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وحاكم ولاية كاليفورنيا جافين نيوسوم.
هذه المواجهة الرقمية ليست مجرد تبادل للشتائم الساخرة، بل هي انعكاس لتحول عميق في كيفية خوض المعارك السياسية في أمريكا اليوم، إذ أصبحت الصورة والرسالة القصيرة أكثر تأثيرًا من الحجج المطولة والبرامج السياسية المعقدة.
تصعيد غير مسبوق في "حرب الميمز"
بعد فترة من الملاسنات المتبادلة، أطلق ترامب هجومًا رقميًا مكثفًا باستخدام منصته "تروث سوشيال" (Truth Social)، مستهدفًا خصومه الديمقراطيين.
وكان أبرز ضحايا هذا الهجوم جافين نيوسوم وحاكم إلينوي جي بي بريتزكر. ففي مقطع فيديو تم تعديله بالذكاء الاصطناعي، يظهر رأس نيوسوم على جسد شخص يحاول عبثًا توجيه لكمات إلى كيس ملاكمة يحمل صورة لترامب بـ "جسد رياضي" ممشوق، وهو ما يهدف إلى تصوير نيوسوم على أنه خصم ضعيف وغير فعال.
وفي مقطع آخر، يظهر نيوسوم وهو يرتدي قبعة حمراء مكتوبًا عليها "ترامب 2028"، في إشارة ساخرة إلى أن محاولاته لمعارضة ترامب لن تؤدي إلا إلى تعزيز قاعدته الجماهيرية. أما بريتزكر، فتم تصويره كمصارع سومو ضخم يواجه المصارع كريس كريستي، في إشارة إلى سخرية ترامب المتكررة من وزنهما.
وأضافت نيوزويك أن هذه الهجمات الرقمية لم تكن عشوائية، بل كانت مصممة بعناية لإحداث تأثير عاطفي قوي لدى مؤيدي ترامب، الذين يعتبرون هذه المقاطع دليلًا على قدرته على السيطرة على المشهد الإعلامي وتحدي خصومه بأسلوب فريد.
هجوم مضاد
لم يتأخر مكتب نيوسوم في الرد، مما يؤكد أنهم مستعدون للمعركة الرقمية. فبعد فترة وجيزة، أطلق هجومًا مضادًا استخدم فيه نفس أسلحة ترامب.
في أحد المقاطع المصممة ببراعة يظهر نيوسوم بقامة طويلة ومهيبة وهو يرحب بترامب، الذي يبدو ضئيل الحجم ويقف على صندوق، على أنغام أغنية "نرحب بك في أرض الأقزام".
هذه المقاطع لا تهدف فقط إلى السخرية، بل إلى عكس الصورة التي يحاول ترامب رسمها عن نفسه كشخصية مهيمنة. تبع ذلك صورة لنيوسوم وهو يحتسي مشروبًا من زجاجة تحمل علامة "دموع ماجا" (MAGA TEARS)، في سخرية واضحة من شعار ترامب "لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا".
هذه الردود السريعة والمبتكرة تظهر أن فريق نيوسوم لا يخشى مواجهة ترامب في عالمه الخاص، بل إنه مستعد لاستخدام أدواته نفسها لقلب الطاولة عليه، مما يضيف طبقة جديدة من التعقيد إلى هذا الصراع السياسي.
امتد هذا الصراع إلى أبعد من مجرد "الميمز" السياسية. ففي حادثة أخرى، وجه ترامب انتقادًا غريبًا لنيوسوم، متسائلًا علنًا عن "حركة يديه" خلال مناسبة في المكتب البيضاوي، مما أثار موجة من السخرية والجدل.
كان هذا التعليق بمثابة هجوم شخصي مباشر يهدف إلى إضعاف صورة نيوسوم. لكن نيوسوم رد بذكاء، ناشرًا فيديو يمزج تعليق ترامب مع لقطات تظهر كدمات واضحة على يد ترامب نفسه، والتي أثارت تكهنات واسعة لأسابيع.
وأشار نيوسوم في رده إلى أن ترامب هو آخر شخص يحق له الحديث عن الأيدي بعد أن لجأ إلى أدوات التجميل لكي تبدو بخير، مؤكدًا أن هذه "حرب ميمز" تعتمد على الردود السريعة والمباشرة.
هذه الحادثة تسلط الضوء على الطبيعة الشخصية لهذه المعارك السياسية، حيث يتم استغلال أي تفصيل، مهما كان تافهًا، لتحويله إلى سلاح سياسي.
ما وراء السخرية: استراتيجية سياسية محكمة
على الرغم من أن هذه المعركة قد تبدو مجرد تبادل للسخافات الرقمية، إلا أنها تكشف عن استراتيجية سياسية عميقة. فبحسب التقارير، ارتفعت شعبية نيوسوم بشكل ملحوظ بعد دخوله في هذا الصراع المباشر مع ترامب. فبينما يرى البعض أن هذه التكتيكات سطحية وتشتت الانتباه عن القضايا الحقيقية التي تهم المواطنين، يرى آخرون أنها وسيلة فعالة للتواصل مع الناخبين الشباب الذين يعتمدون على منصات التواصل الاجتماعي كمصدر رئيسي للمعلومات والأخبار.
هذه الطريقة تسمح للسياسيين بتجاوز الإعلام التقليدي والوصول مباشرة إلى جمهورهم، مما يمنحهم سيطرة أكبر على السرد.
في نهاية المطاف، يبدو أن "حرب الميمز" بين ترامب ونيوسوم لن تتوقف قريبًا. فكل هجوم يولد هجومًا مضادًا، مما يغذي دائرة مفرغة من السخرية والردود السريعة، ويحول المشهد السياسي إلى ساحة مواجهة ذات بعد ترفيهي لا تخطؤه عين المراقبين وهي مليئة بالكوميديا السوداء.
