لم يعد البحث العلمي في مصر يواجه فقط تحديات التمويل أو قلة الإمكانات، بل ظهر في السنوات الأخيرة خطر جديد أشد فتكًا يتمثل في مكاتب لبيع الأبحاث، التي حولت العلم إلى سلعة تُشترى وتُباع.
هذه المكاتب تستهدف الطلاب والباحثين، وتعرض عليهم إعداد رسائل الماجستير والدكتوراه مقابل مبالغ مالية ضخمة، مستخدمة أساليب تسويقية مغرية عبر الإعلانات ومواقع التواصل الاجتماعي.
ما يحدث ليس مجرد خدمة أكاديمية، بل هو جريمة مكتملة الأركان ضد مستقبل البحث العلمي. فهذه الممارسات لا تحقق سوى أرباح سريعة لهذه المكاتب، بينما تفرغ العلم من جوهره القائم على الإبداع والابتكار، وتخرج لنا باحثين بلا مهارات حقيقية.
النتيجة واضحة: ضعف في مخرجات البحث العلمي، تراجع في تصنيف الجامعات المصرية عالميًا، وانعدام الثقة في المجتمع الأكاديمي. بل الأخطر أن القرارات المبنية على مثل هذه الدراسات تصبح هشة، وهو ما يهدد مسيرة التنمية الوطنية.
مواجهة هذه الظاهرة تتطلب حزمة من الإجراءات الحاسمة، تبدأ بتكثيف الحملات التوعوية للطلاب وأعضاء هيئة التدريس، وتمر بسن قوانين رادعة تُجرّم هذه الممارسات وتعاقب المتورطين فيها، مع تشديد الرقابة على الإعلانات المضللة. كما أن الجامعات مطالَبة بتفعيل وحدات متابعة أخلاقيات البحث العلمي، وتوفير بدائل شرعية من خلال مراكز الاستشارات البحثية لدعم الطلاب أكاديميًا.
ولا يمكن إغفال دور اللجان العلمية في التصدي لهذا الخطر؛ فالتدقيق في اختيار المحكمين، وتشديد معايير التقييم، ومراجعة الأبحاث عبر أدوات كشف الانتحال، كلها خطوات لا غنى عنها.
كذلك يجب إلزام المتقدمين للترقية بخطط بحثية مستقبلية تثبت قدرتهم على الابتكار، مع التركيز على البحوث التطبيقية التي تلبي احتياجات المجتمع والصناعة.
إن التساهل مع هذه المكاتب هو استسلام لموجة خطيرة قد تفقد مصر مكانتها العلمية. البحث العلمي ليس أوراقًا تُكتب، بل عقل يُبدع، وأمة تُبنى. وإذا أردنا الحفاظ على سمعة التعليم العالي في بلادنا، فعلينا أن نغلق هذه الأبواب المظلمة، ونمنح الباحثين الحقيقيين ما يستحقونه من دعم وثقة.
د. جيهان رجب
أستاذ بجامعة عين شمس