مصر الفرعونية عرفت اللعبة قبل الإغريق بقرون طويلة
تاريخ حافل للمصريين ومسيرة مشرفة وطموح متجدد
صفحات مضيئة في سجل المسابقات العالمية.. وجيل جديد من الأبطال القادرين على رفع العلم المصري في المحافل الدولية
تعد الملاكمة واحدة من أعرق الألعاب القتالية التي عرفتها الرياضة المصرية، حيث امتلكت مصر على مر التاريخ مكانة بارزة في هذه الرياضة سواء على الصعيدين العربي أو الإفريقي، بل ونجحت في أن تسجل حضورا عالميا من خلال مشاركة أبطالها في الأولمبياد والبطولات الكبرى.
ورغم الفترات التي شهدت فيها اللعبة تراجعًا في الاهتمام والإنجازات، فإنها تعود اليوم بقوة عبر جيل جديد من الملاكمين الواعدين الذين يمثلون الأمل في استعادة أمجاد الماضي وبناء مستقبل أكثر إشراقًا.
البدايات الفرعونية


الملاكمة عرفها المصريون القدماء، حيث مارسها الشباب كوسيلة لإعداد المقاتلين والدفاع عن الوطن. النقوش والرسومات التي ظهرت على جدران مقبرة "خير واف" بغرب الأقصر من الأسرة الثامنة عشرة (1554 – 1306 قبل الميلاد) تؤكد ممارسة المصريين لهذه الرياضة منذ آلاف السنين. تلك الرسومات أظهرت مبارزات بين ملاكمين أمام الفرعون، حيث يرفع المنتصر يده فرحاً بينما ينحني الخاسر تحية للجمهور، ما يدل على روح التنافس والالتزام بالقواعد. وبذلك يمكن القول إن مصر الفرعونية عرفت الملاكمة قبل الإغريق بقرون طويلة.
دخول الملاكمة إلى مصر الحديثة
مع أواخر الاحتلال الإنجليزي لمصر عادت الملاكمة إلى الواجهة بشكل رسمي، حيث كان الجنود الإنجليز يمارسونها في معسكراتهم. ومن تلك المعسكرات انتقلت اللعبة إلى الأندية الخاصة بالجاليات الأجنبية مثل نادي سبورتنج بالإسكندرية ونادي الجزيرة بالقاهرة. ومع متابعة الشباب المصري لهذه التدريبات بدأت المحاولات الجادة لتعلم الملاكمة وممارستها، لتصبح جزءا من النشاط الرياضي في البلاد.
أول ظهور رسمي
شهدت مدينة الإسكندرية أول ظهور رسمي للملاكمة الحديثة في مصر عام 1910، وذلك داخل أندية البالسترا والأولمبي، قبل أن تنتقل إلى القاهرة عام 1916 عبر نادي بوكاليني والنادي المختلط (الزمالك حالياً). تبعتها أندية أخرى مثل أنصار القوة الشعبية والترسانة والسكة الحديد، وهو ما ساعد على انتشار اللعبة.
تأسيس الاتحاد المصري للملاكمة


عام 1923 تم تأسيس أول اتحاد مصري للملاكمة برئاسة جعفر والي باشا وفي 21 يوليو من العام نفسه أقيمت أول بطولة رسمية بإشراف الاتحاد، بمشاركة ملاكمين من مختلف الأندية..و بعد عام واحد فقط شاركت مصر في دورة الألعاب الأولمبية بباريس 1924، لتصبح الملاكمة من أوائل الرياضات التي مثلت مصر في الأولمبياد.
المشاركات الأولمبية والتاريخية

تملك مصر سجلاً كبيراً من المشاركات في الدورات الأولمبية البداية الحقيقية جاءت عام 1960 في دورة روما، حين حقق البطل عبد المنعم الجندي أول ميدالية أولمبية لمصر في الملاكمة بحصوله على البرونزية.
عام 1984 في لوس أنجلوس شاركت مصر بستة ملاكمين، ونجح محمد عطية حجازي في الوصول إلى دور الثمانية محققاً المركز الخامس الشرفي، وهو إنجاز تكرر في دورة سيول 1988 عبر حجازي وزميله أحمد السيد النجار.
إنجازات في البطولات العالمية

حققت مصر إنجازاً لافتاً في بطولة العالم الخامسة عام 1989 بموسكو، حين حصل الملاكم قباري عبد الكريم سالم على برونزية وزن خفيف المتوسط، وهو أول إنجاز عالمي في تاريخ مصر بالملاكمة.
توالت الإنجازات بعد ذلك، حيث أحرز مصطفى قلليني برونزية في بطولة العالم بسيدني 1991، فيما حصد أبطال مصر ميداليات متعددة في دورة البحر المتوسط في نفس العام كما نظمت مصر الدورة الإفريقية الخامسة وحققت خلالها عدة ميداليات ذهبية وفضية وبرونزية.
عام 1995 شهد مشاركة مميزة في بطولة العالم ببرلين، بينما حصلت مصر على سبع ميداليات متنوعة في الدورة الإفريقية السابعة بجوهانسبيرج عام 1999، وهو ما منحها بطاقة التأهل إلى أولمبياد سيدني 2000.
محطة أثينا 2004




كان الموعد الأبرز للملاكمة المصرية في دورة الألعاب الأولمبية أثينا 2004، حين نجح الأبطال في حصد ثلاث ميداليات دفعة واحدة.
فقد حصل محمد علي فضية وزن فوق الثقيل، بينما أحرز أحمد إسماعيل برونزية الوزن الخفيف، ومحمد السيد برونزية الوزن الثقيل هذه المحصلة اعتبرت من أكبر إنجازات الملاكمة المصرية في تاريخها الحديث.
استمرار المشاركة وصناعة الأبطال
واصلت مصر مشاركاتها في البطولات العالمية والإقليمية، وبرزت أسماء لامعة مثل محمد هيكل وأحمد إسماعيل ورمضان عبد الغفار وغيرهم. وعلى الرغم من التحديات المتعلقة بالإمكانات والدعم، إلا أن الملاكمة المصرية ظلت حاضرة على الساحة.
الملاكمة النسائية في مصر

لفترة طويلة لم يكن للسيدات نصيب في الملاكمة المصرية، لكن عام 2022 شهد حدثا تاريخيا، حين حققت البطلة يمنى عياد أول ميدالية نسائية في تاريخ مصر بالملاكمة، بحصولها على برونزية وزن 54 كجم في دورة ألعاب البحر الأبيض المتوسط. هذا الإنجاز فتح الباب أمام مشاركة أوسع للسيدات وأعطى دفعة قوية لتطوير اللعبة على مستوى النساء.
تراجع اللعبة
شهدت اللعبة فترات تراجع ملحوظة خاصة في العقدين الأخيرين، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب أبرزها ضعف الدعم المالي وقلة الاهتمام الإعلامي مقارنة برياضات أخرى مثل كرة القدم أو كرة اليد.
كما أن محدودية برامج الإعداد والاحتكاك الدولي أثرت سلبًا على مستوى اللاعبين، ما أدى إلى غياب مصر عن منصات التتويج العالمية لسنوات طويلة. لكن هذا التراجع لم يمنع وجود مواهب فردية قاتلت من أجل إثبات نفسها، واستمرت في تقديم عروض قوية في البطولات القارية.
عودة تدريجية إلى الواجهة
في السنوات الأخيرة، بدأت مؤشرات العودة تظهر على الساحة الرياضية المصرية، حيث زاد اهتمام الاتحاد المصري للملاكمة بتطوير البنية التحتية وإعداد اللاعبين من خلال معسكرات تدريبية داخلية وخارجية. كما جرى العمل على زيادة المشاركات في البطولات الدولية لتوفير خبرة احتكاك أكبر للاعبين. هذا الجهد انعكس بشكل تدريجي في النتائج، حيث باتت أسماء مصرية تعود لتتألق على الحلبات الإفريقية والعربية، مما أعاد الأمل إلى الجماهير بعودة اللعبة إلى مكانتها الطبيعية.
المستقبل وآفاق التطوير
يعمل الاتحاد المصري للملاكمة على إعداد خطة للنهوض باللعبة من خلال الأكاديميات المتخصصة، والاستعانة بالخبرات الأجنبية، إضافة إلى إدخال التكنولوجيا في التدريب والتحكيم. كما يجري العمل على توسيع قاعدة الممارسين، سواء عبر المدارس والجامعات أو من خلال تشجيع مشاركة السيدات.
الملاكمة المصرية ليست مجرد رياضة، بل هي جزء من تاريخ ممتد منذ عصور الفراعنة وحتى يومنا هذا.. من جدران المعابد بالأقصر إلى منصات التتويج في أثينا وسيدني، سطرت مصر صفحات مضيئة في سجل الملاكمة العالمية. وبرغم التحديات، يبقى الأمل كبيرا في أن تستعيد اللعبة أمجادها مع جيل جديد من الأبطال القادرين على رفع العلم المصري في المحافل الدولية.