قبل مئة عام، وفي صيف عام 1925، اجتمعت وفود من مختلف الكنائس في العاصمة السويدية ستوكهولم بدعوة من رئيس أساقفة أوبسالا ناثان سودربلوم، في محاولة جريئة لتجاوز الانقسامات التي مزّقت جسد الكنيسة على مدار قرون. كان العالم حينها يخرج مثخنًا بجراح الحرب العالمية الأولى، وتلوح في الأفق مخاطر صراعات جديدة، فشعر قادة الكنائس أن واجبهم الروحي والإنساني يحتم عليهم إطلاق صرخة من أجل السلام والوحدة.
اليوم، وبعد مرور قرن كامل، عادت الكنائس العالمية لتجتمع في المكان نفسه، داخل الكاتدرائية التاريخية في أوبسالا، لتتذكر ذلك الحدث المؤسس، ولتقول للعالم من جديد: "الوحدة المسيحية ليست حلمًا، بل ضرورة وجودية لأجل خلاص البشرية وسلامها."
ستوكهولم 1925 لحظة فارقة
كان مؤتمر "الحياة والعمل" عام 1925 نقطة انطلاق للحركة المسكونية الحديثة. جمع مئات المندوبين من كنائس أرثوذكسية وكاثوليكية وبروتستانتية، وطرح سؤالًا وجوديًا: هل يمكن للمسيحيين أن يشهدوا لإيمانهم في عالم منقسم إذا كانوا هم أنفسهم منقسمين؟
لم يكن المؤتمر مجرد نقاش لاهوتي، بل مناسبة لرسم خط أخلاقي جديد: على الكنائس أن تتحد لتخدم السلام، وتواجه الفقر، وتدافع عن العدالة. ومن رحم هذا اللقاء، وُلدت الفكرة التي ستؤدي لاحقًا إلى تأسيس مجلس الكنائس العالمي عام 1948.
اتحاد الكنائس العالمية
شهدت كنيسة فيلادلفيا في العاصمة السويدية ستوكهولم، احتفالاً مسكونياً خاصاً جمع قيادات دينية من مختلف أنحاء العالم، لإحياء ذكرى مرور مئة عام على مؤتمر ستوكهولم المسكوني لعام 1925، الذي مثّل انطلاقة حاسمة للحركة المسكونية الحديثة.
ويأتي الاحتفال في إطار الأسبوع المسكوني الذي يركز على قضايا الوحدة، السلام، والشركة بين الكنائس.
إرث ناثان سودربلوم
تأمل المطران مارتن موديوس، رئيس أساقفة كنيسة السويد ورئيس مجلس الكنائس المسيحي السويدي، في الإرث الروحي للمؤتمر، وخاصة إرث المطران ناثان سودربلوم، مشيراً إلى دعوته للروح القدس كي يشعل شعلة في قلوب المؤمنين.
وقال: "المحبة ليست أن ننظر إلى بعضنا البعض، بل أن ننظر في الاتجاه ذاته، بجانب المسيح، لنرى ما يراه ونقول ما يقوله ونفعل ما يفعله."
وحدة الكنائس في السويد
بدورها، رحبت القس كارين ويبورن، القيادية في الكنيسة الموحدة بالسويد، بالحضور باسم مجلس الكنائس المسيحي السويدي الذي يضم 27 كنيسة مختلفة، مؤكدة أن هذا اللقاء ثمرة مسيرة طويلة من الحوار والعمل المشترك.
سلام الله
وألقى البطريرك المسكوني برثلماوس الأول عظة بعنوان "زمن سلام الله"، تناول فيها تطورات الحركة المسكونية وتطلعاتها في ظل عالم منقسم يبحث عن مصالحة وسلام.
وقال: "علينا واجب تجاه مجتمعنا العالمي أن نتحد في الإيمان والعمل، ولا يمكن أن نقدّم شهادة صادقة إلا إذا وقفنا معًا في صلاة من أجل سلام الله."
وأضاف أن التزام البطريركية المسكونية برؤية ورسالة مجلس الكنائس العالمي ظل ثابتاً، مؤكداً أن الإنسانية اليوم تواجه أخطاراً غير مسبوقة، من الحروب إلى التدمير الواسع للبيئة.
وشدد: "بوصفنا مسيحيين متحدين في إيماننا، علينا التزام أخلاقي برفض الحرب كضرورة سياسية، والدفاع عن السلام كحاجة روحية ووجودية."
رسالة المجلس العالمي
من جانبه، ألقى الأمين العام لمجلس الكنائس العالمي الدكتور القس جيري بيلاي كلمة استذكر فيها أصوات مؤتمر ستوكهولم قبل قرن، حين دعا المشاركون إلى العدالة والسلام والمصالحة وبناء نظام اجتماعي جديد.
وأوضح أن المؤتمر أطلق حركة "الحياة والعمل" التي مهّدت لتأسيس مجلس الكنائس العالمي عام 1948، مذكراً بأن أصغر المشاركين في المؤتمر آنذاك كان ويليم فيسر هوفت، الذي أصبح لاحقاً أول أمين عام للمجلس.
وأكد بيلاي أن مشاركة الكنيسة الأرثوذكسية كانت وما تزال ركيزة أساسية في هذه المسيرة، مضيفاً: "بعد مئة عام، يبقى الشاهد المسكوني على الوحدة وسط الانقسام دعوة ملحّة في عالم يتسارع نحو التفتت والصراع، بعيداً عن العدالة والتضامن والسلام."
أوبسالا 2025 احتفال يطل على العالم
عاد المشهد إلى الكاتدرائية العريقة في أوبسالا، حيث أقيمت خدمة صلاة كبرى بعنوان "زمن لسلام الله"، حضرها ممثلون عن مختلف الكنائس من القارات الخمس.
المكان نفسه الذي شهد دموع وخطب المندوبين قبل مئة عام، امتلأ مجددًا بأصوات ترتيل وقراءات وصلوات جمعت بين اللغات والثقافات، وكأن العالم بأسره اجتمع في فضاء صغير ليعيد اكتشاف معنى الوحدة.
أصوات ترتفع من أجل العالم
افتُتح المؤتمر بتراتيل جماعية باللغتين السويدية والإنجليزية، قبل أن يقدّم الأمين العام لمجلس الكنائس العالمي القس البروفيسور جيري بيلاي كلمته والتي اشار فيها إلي ان السلام الذي نحتاجه ليس غياب الحرب فقط، بل هو عدالة، وكرامة، وحق لكل إنسان في أن يعيش بحرية وإخاء. دعوتنا للوحدة اليوم هي دعوة لإنقاذ العالم من الانقسام والدمار."
جلس في الصفوف الأمامية ممثلون عن الكنائس الأرثوذكسية الشرقية، والكنائس الكاثوليكية، والبروتستانتية، جنبًا إلى جنب مع وفود من إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط. هذا التنوع لم يكن مجرد حضور رمزي، بل رسالة واضحة أن الوحدة المسيحية تتسع للجميع.
وفي سياق متصل خصص اللقاء سلسلة من الحوارات وورش العمل، والتي حملت إحدى الجلسات عنوان "السلام في زمن النزاعات المتعددة"، حيث تحدث ممثلون من أوكرانيا وفلسطين والسودان عن معاناة شعوبهم تحت الحروب والاحتلال والنزوح، كانت لحظة مؤثرة عندما وقف أسقف من الأراضي المقدسة ليقول : "لا يمكن للكنيسة أن تعظ بالسلام إذا لم ترفع صوتها من أجل فلسطين. العدالة هي الطريق الوحيد للسلام." رد عليه شاب من إفريقيا قائلاً: "نحن جيل لا يريد أن يرث الانقسامات القديمة. نريد أن نرث حلم الوحدة." هذا التلاقي بين أصوات القيادات التاريخية وصوت الشباب أعطى المؤتمر نَفَسًا جديدًا، مزج بين الحكمة والخبرة من جهة، والحلم والجرأة من جهة أخرى
الشباب والمرأة.. صوت المستقبل
كما خصصت جلسات لصوت الأجيال الجديدة ودور المرأة في صنع مستقبل الكنيسة، حيث وقفَت شابة من أمريكا اللاتينية لتروي كيف أن التغير المناخي يدفع آلاف العائلات إلى الهجرة القسرية، وقالت: "إيماننا بالله يعطينا رجاء، لكننا نحتاج أن تتحول الكنائس إلى قوة ضاغطة على الحكومات لتتحمل مسئولياتها تجاه الأرض."
أما في جلسة أخرى، تحدثت قيادات نسائية من أفريقيا والشرق الأوسط عن التحديات التي تواجه المرأة المسيحية، ليس فقط من حيث التهميش الاجتماعي، بل أيضًا في حقها في القيادة الكنسية. قالت إحدى المتحدثات من مصر:"المرأة ليست مجرد متلقية للرسالة، بل حاملة لها. نحن نريد أن نكون جزءًا من صناعة القرار، لأننا نعيش الألم والأمل جنبًا إلى جنب مع الرجال."
وكان واضحًا أن أصوات النساء والشباب أضفت على المؤتمر روحًا مختلفة، أقرب إلى النبض اليومي للناس، بعيدًا عن الخطابات الرسمية.
أجواء روحية
رغم الطابع الحواري والسياسي، لم يخلُ المؤتمر من لحظات خشوع وتأمل كانت تُقام صلوات مشتركة بترانيم من تقاليد مختلفة: الأرثوذكسية، الكاثوليكية، اللإنجيلية بمختلف مذاهبها، وحتى ألحان مسيحية من أفريقيا وآسيا.
هذا التنوع الموسيقي والروحي لم يكن مجرد زخرفة، بل رسالة في حد ذاته: الوحدة تُبنى بالصلاة أولًا.
وأُضيئت الشموع في الكاتدرائية، ووقف الجميع دقيقة صمت من أجل ضحايا الحروب في غزة وأوكرانيا والسودان والكونغو.
رسائل المؤتمر
خرج المؤتمر بعدة رسائل واضحة، يمكن تلخيصها في ثلاث نقاط رئيسية:
- الوحدة من أجل الشهادة: الكنيسة لا تستطيع أن تشهد للمسيح ما دامت منقسمة. الوحدة ليست ترفًا بل شرط أساسي.
- السلام العادل لا يكفي الحديث عن سلام روحي، بل يجب الدفاع عن حقوق المظلومين، والكنيسة مطالبة بأن تكون صوت العدالة.
- الأرض بيتنا المشترك: التغير المناخي ليس قضية علمية فقط، بل قضية إيمانية. حماية الخليقة جزء من الشهادة المسيحية.
على خطى سودربلوم
حين دعا رئيس الأساقفة ناثان سودربلوم قبل مئة عام إلى مؤتمر ستوكهولم، كان يغامر بفكرة بدت مستحيلة: جمع كنائس متخاصمة على مائدة واحدة.
اليوم، تبدو فكرته أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. وفي عالم يمزقه العنف والحروب الدينية والسياسية، يحتاج الناس إلى رؤية بديلة: أن الوحدة ليست ضعفًا بل قوة، وأن الكنائس حين تتوحد تستطيع أن تكون ضميرًا عالميًا.
سلام الله.. وصوت ستوكهولم للعالم
الكاتدرائية التي شهدت دموع سودربلوم ودموع المندوبين عام 1925، عادت بعد مئة عام لتشهد دموعًا جديدة، دموع أمل في أن العالم قد يسمع أخيرًا صوت الكنائس إذا تكلمت بلغة واحدة لغة السلام.
ومع مغادرة الوفود لأوبسالا، حمل كل واحد منهم رسالة: أن الوحدة ليست حلمًا سويديًا قديمًا، بل نداءً عالميًا يتجدد في كل مكان وزمان.