تتسارع وتيرة الحراك الاستثماري السعودي في مصر بوتيرة غير مسبوقة، حيث لم يعد الأمر محصورًا في ضخ رؤوس الأموال أو إقامة مشروعات تقليدية، بل تحول إلى ركيزة لشراكة استراتيجية أوسع تتجاوز الاقتصاد لتطال أبعادًا سياسية وأمنية وتنموية.
ففي ظل رؤية السعودية 2030، تسعى الرياض إلى تعزيز حضورها في المنطقة عبر استثمارات نوعية، فيما ترى القاهرة في التدفقات السعودية فرصة ذهبية لدعم استقرارها الاقتصادي وتخفيف أعباء الدين وتحقيق طفرة تنموية تواكب متطلبات المرحلة.
وهذه الديناميكية الجديدة ترسم ملامح علاقة تتخطى حدود المصالح الاقتصادية المباشرة، لتؤسس لمرحلة تكامل إقليمي يضع مصر والسعودية في قلب معادلة التوازنات الاستراتيجية المقبلة.
رؤية السعودية 2030، تمثل تحولا استراتيجيا شاملا في بنية الاقتصاد السعودي تقوم على تنويع مصادر الدخل والبحث عن شراكات إقليمية تعزز من موقع المملكة كمركز اقتصادي ومالي محوري في المنطقة، وفي هذا السياق تأتي العلاقة الاستثمارية مع مصر، باعتبارها إحدى الوجهات الرئيسية التي تستهدفها الرياض لاعتبارات سياسية وجغرافية وديموغرافية واستراتيجية متعددة، إذ يرى صناع القرار أن مصر بما تملكه من موقع جغرافي فريد يربط آسيا بإفريقيا ومن سوق ضخم يتجاوز 100 مليون نسمة تشكل فرصة استثنائية لتوسيع النفوذ الاقتصادي وتحقيق مكاسب متبادلة ترتبط برؤية أشمل تقوم على تكامل اقتصادي عربي يخدم الأمن القومي والتنمية المستدامة في آن واحد.
واللافت أن زيادة الاستثمارات السعودية في مصر لم تعد محصورة في قطاع بعينه بل شملت قطاعات متنوعة مثل الطاقة المتجددة والبنية التحتية والصناعة والسياحة والعقارات والزراعة والتكنولوجيا وهو ما يعكس رغبة في خلق شراكات طويلة الأجل توفر فرص عمل وتدعم ميزان المدفوعات وتمنح الاقتصاد المصري متنفسا في ظل الضغوط التي يتعرض لها من ارتفاع الدين الخارجي ونقص النقد الأجنبي وفي الوقت نفسه تمنح السعودية منفذا واسعا لتنفيذ رؤيتها عبر الاستفادة من الموقع المصري كبوابة للأسواق الإفريقية والأوروبية.
وتأتي هذه التوجهات في وقت تحتاج فيه القاهرة إلى تدفقات استثمارية عاجلة لدعم اقتصادها ومواجهة تحديات متزايدة على صعيد التمويل الخارجي والعملة المحلية ومن ثم فإن التحرك السعودي لم يكن مجرد استثمار مالي بل جزءا من استراتيجية أوسع لدعم الاستقرار الإقليمي حيث يربط الطرفان بين الأمن الاقتصادي والأمن السياسي، ويعتبران أن تقوية الروابط المالية والاستثمارية نزيد من الاستقرار والسلام في المنطقة ومما يزيد من أهمية هذا المسار أن الاستثمارات الجديدة لا تعتمد فقط على رؤوس أموال حكومية بل تمتد إلى القطاع الخاص السعودي الذي يرى في السوق المصرية فرصا واسعة للنمو وتحقيق الأرباح خاصة في القطاعات الاستهلاكية والخدمية التي تحتاجها شريحة شبابية واسعة تمثل غالبية سكان مصر.
الرؤية السعودية وهي تدفع باتجاه زيادة الحضور في مصر تنطلق أيضا من اعتبارات أمن الطاقة وتنوع مصادره إذ تسعى المملكة إلى توطين صناعات استراتيجية خارج حدودها وربطها بمنظومة إمداد إقليمية تضمن لها تأمين الموارد في المستقبل في وقت يشهد فيه العالم تنافسا حادا على المعادن النادرة والطاقة النظيفة كما تسعى إلى بناء سلاسل قيمة مشتركة مع مصر بما يتيح تصدير منتجات نهائية للأسواق المجاورة بدلا من الاقتصار على تصدير المواد الخام أو المنتجات الأولية وهذا التوجه ينسجم مع طموح القاهرة في أن تتحول إلى مركز إقليمي للتصنيع والخدمات اللوجستية مستفيدة من قناة السويس والموانئ البحرية الممتدة على البحرين الأحمر والمتوسط.
من جهة أخرى، فإن زيادة الاستثمارات ترتبط بمسار سياسي متنامي في العلاقات الثنائية حيث ينظر البلدان إلى التعاون الاقتصادي كأداة لتعزيز التحالف الاستراتيجي في مواجهة التحديات الإقليمية سواء تلك المرتبطة بملفات الأمن المائي والحدود أو المتعلقة بموازين القوى في الشرق الأوسط الأوسع، وبهذا يصبح الاستثمار وسيلة لتعميق التحالفات وليس مجرد نشاط اقتصادي تقليدي.
وأتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة المزيد من الاتفاقات التي تؤطر لهذا التعاون بشكل مؤسسي وتفتح الباب أمام إنشاء مناطق صناعية خاصة وممرات لوجستية ومشروعات مشتركة في مجالات التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة.
ولا يمكن قراءة هذا التوسع الاستثماري بمعزل عن مساعي مصر لجذب شركاء استراتيجيين يساهمون في معالجة أزمة السيولة وتخفيف الأعباء عن الموازنة العامة إذ تعتمد القاهرة بشكل متزايد على تحويل الودائع الخليجية في البنك المركزي إلى استثمارات فعلية توفر قيمة مضافة وتخلق فرص عمل محلية بدلا من بقائها كأرصدة مالية جامدة وهذا ما يمنح التعاون مع السعودية بعدا عمليا يربط التمويل المباشر بمشروعات تنموية ملموسة تحقق أثرا طويل الأجل وفي الوقت نفسه تمنح المستثمر السعودي ضمانات قانونية ومؤسسية بعد توقيع اتفاقيات الحماية المتبادلة وتشجيع الاستثمار.
وعلى المستوى الشعبي، فإن هذه الشراكة تحمل انعكاسات مهمة إذ يتوقع أن تؤدي إلى تحسين البنية التحتية وتطوير الخدمات وزيادة المعروض من السلع والخدمات ما يخفف الضغط عن المواطن المصري ويوفر وظائف جديدة كما أن التوسع في المشروعات المشتركة يعزز من نقل الخبرات والتكنولوجيا الحديثة ويوفر بيئة أكثر تنافسية تشجع على الابتكار والإنتاجية وفي المقابل يتيح للمملكة بناء صورة إيجابية كفاعل تنموي في المنطقة يسهم في استقرار محيطه ويعزز من قوته الناعمة بما يخدم مصالحه الاستراتيجية.
ومن زاوية أوسع، فإن الرؤية السعودية 2030، لا تقتصر على الداخل وإنما تسعى إلى توسيع دوائر الاقتصاد في محيطها المباشر وهذا يفسر اندفاعها نحو مصر كأحد أهم الشركاء المحتملين إذ تجمعهما روابط جغرافية وثقافية وسياسية عميقة كما أن استقرار مصر يعد من أولويات الأمن القومي السعودي ومن ثم فإن زيادة الاستثمارات ليست عملا معزولا بل جزء من مقاربة شاملة للأمن والتنمية تضع الاقتصاد في قلب السياسة الخارجية وفي ضوء هذه التطورات يمكن القول إن مصر ستظل وجهة رئيسية لرأس المال السعودي خلال العقد المقبل، وإن حجم التدفقات المتوقعة مرشح للزيادة مع استمرار الإصلاحات الاقتصادية المصرية وتوفير بيئة تشريعية وإدارية أكثر جاذبية.
وفي النهاية، فإن التقاء الرؤية السعودية 2030، مع احتياجات الاقتصاد المصري يشكل لحظة تاريخية يمكن أن تؤسس لشراكة استراتيجية طويلة الأجل قوامها التكامل الاقتصادي وتبادل المنافع فالرياض تبحث عن فرص توسع آمنة وذات جدوى عالية والقاهرة تبحث عن استثمارات قادرة على دعم النمو وتخفيف أعباء الدين وتحسين الأوضاع المعيشية وإذا ما أُحسن استثمار هذه اللحظة وتم تجاوز العقبات البيروقراطية والتنظيمية فإن السنوات المقبلة قد تشهد نقلة نوعية في مستوى التعاون بين البلدين بحيث يتحول من مجرد استثمارات متفرقة إلى مشروع إقليمي متكامل يربط بين رؤى التنمية في مصر والسعودية، ويؤسس لفضاء اقتصادي عربي قادر على المنافسة عالميا.
واتسمت العلاقة بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والملك سلمان بن عبد العزيز، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، رئيس مجلس الوزراء، اتسمت منذ بدايتها بقدر كبير من الرمزية السياسية والتحالف الاستراتيجي، إذ مثلت امتدادًا طبيعيًا للتحالف المصري السعودي بعد عام 2013، ولكنها أخذت طابعًا أوضح وأكثر مؤسساتية مع تولي الملك سلمان العرش في يناير 2015.
ومنذ ذلك الحين تعددت اللقاءات والزيارات بين الزعيمين، سواء في القاهرة أو الرياض أو على هامش القمم العربية والإسلامية والدولية، وكانت هذه اللقاءات بمثابة رسائل دعم متبادلة، فبالنسبة لمصر، مثلت السعودية ركيزة أساسية في توفير الدعم المالي والاستثماري ومساندة الاقتصاد المصري في فترة شديدة الحساسية، أما بالنسبة للسعودية فاعتُبر استقرار مصر ضرورة استراتيجية ضمن معادلة أمن الخليج والبحر الأحمر وموازين القوى الاقليمية.
وكانت زيارة الملك سلمان التاريخية إلى القاهرة في أبريل 2016، من أبرز المحطات، حيث شهدت توقيع اتفاقيات بمليارات الدولارات شملت مجالات الطاقة والإسكان والبنية التحتية، في المقابل، قام الرئيس السيسي بزيارات متكررة إلى الرياض للتشاور حول الملفات الإقليمية الحساسة، خاصة الأزمة السورية واليمنية، إضافة إلى التنسيق في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.. كما جاءت زيارات ولي العهد، إلى القاهرة، لتعكس رسائل مزدوجة كدعم سياسي واضح لمصر، وتأكيد على مكانة القاهرة كمحور أساسي في معادلة الأمن الإقليمي.
واليوم يتوجّه الرئيس عبد الفتاح السيسي، إلى المملكة العربية السعودية تلبية لدعوة من شقيقه الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود حيث صرّح المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية، بأن زيارة الرئيس تأتي في إطار العلاقات التاريخية الراسخة التي تجمع بين مصر والمملكة العربية السعودية، وتجسيدًا لحرص القيادتين على مواصلة تعزيز التعاون الثنائي بين البلدين، إلى جانب التنسيق والتشاور المستمر بشأن القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك.
وحسب السفير محمد الشناوي، المتحدث الرسمي، فإن المباحثات بين الرئيس وولي العهد، والمقرر عقدها بمدينة نيوم، سوف تتناول سبل دعم وتعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، بما يحقق المصالح المشتركة على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والتنموية، كما سيبحث الزعيمان مستجدات الأوضاع في المنطقة، وفي مقدمتها تطورات الحرب في قطاع غزة، إلى جانب الملفات المتعلقة بلبنان وسوريا والسودان وليبيا واليمن، فضلًا عن أمن البحر الأحمر.