أخبار عاجلة

من الربيع العربي إلى غزة: كيف تلاشى صوت المنظمات الحقوقية الأوروبية؟

من الربيع العربي إلى غزة: كيف تلاشى صوت المنظمات الحقوقية الأوروبية؟
من الربيع العربي إلى غزة: كيف تلاشى صوت المنظمات الحقوقية الأوروبية؟

منذ أكثر من عشر سنوات،اتخذت منظمات حقوقيه أوروبية عديدة موقفاً داعماً لما وصف آنذاك بالربيع العربي حيث رفعت شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وقُدمت نفسها كحاضنة للنقاشات حول الانتقال الديمقراطي، واستضافت مراكزها مؤتمرات وورش عمل حوّل حريه التعبير وحريه التظاهر السلمي، ووفّرت منحًا ودورات تدريبيه للصحفيين والناشطين، وكان الصوت الحقوقي الأوروبي مرتفعًا ومؤثرًا في المشهد الاقليمي، وبدا وكأن أوروبا تُعيد تأكيد زعامتها الأخلاقية، لكن هذا الزخم تراجع بصورة لافتة عندما تحولت البوصلة نحو فلسطين، ففجأة، تراجعت النبرة الحقوقية ليحل محلها صمت ثقيل، بل وأحيانًا انحياز صريح، على الرغم من أن الوقائع الميدانية كانت أوضح وأكثر توثيقًا من أي وقت مضى.

ومن المفارقات أن عددًا من المؤسسات الحقوقية الأوروبية، التي دأبت ان  تُقدّم نفسها كحامية لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، لم تُدن أو حتى تُعلّق على السياسات القمعية ضد المظاهرات المؤيدة لفلسطين داخل أراضيها ،ففي ألمانيا علي سبيل المثال، برز مشهد غير مسبوق: الشرطة تمنع رفع العلم الفلسطيني أو ارتداء الكوفية الفلسطيني ، وتفرّق المظاهرات بالقوه المفرطه ، وتعتقل المئات، حيث أعرب مفوض حقوق الإنسان في  مجلس اوربا مايكل أوفلاهرتي، عن قلقه إزاء طريقة تعامل السلطات الألمانية مع التظاهرات المناهضه للحرب في غزه في رساله وجهها إلى وزير الداخلية الألماني ألكسندر دوبرينت، وانتقد القيود المفروضة على حرية التجمع والتعبير أثناء تلك الاحتجاجات موضحاً  أن هناك تقارير أفادت بحدوث "عنف مفرط" من جانب الشرطة الألمانية ضد المتظاهرين، مؤكداً  أن هذه الإجراءات “تتعارض مع التزامات ألمانيا الدولية في مجال حقوق الإنسان”، ودعا إلى الكف عن استخدام قوانين مكافحة معاداة السامية لتقييد حرية التعبير والتجمع، ومع ذلك، ظلّت المؤسسات الألمانية الكبرى مثل فريدريش ناومان وكونراد أديناور وفريدريش إيبرت في صمت تام، هذه المؤسسات التي أقامت عشرات الفعاليات لدعم الشباب خلال “الربيع العربي”، لم تجد الجرأة لإصدار بيان يُدين قمعًا مشابهًا يُمارس علي الأراضي الالمانيه وفي قلب أوروبا، اذ اشارت تقارير للبرلمان الأوروبي إلى اعتقال اعداد كبيره من المتظاهرين في ألمانيا خلال أقل من عشرة أيام بعضها انتهى بإصابات خطيرة نتيجة تدخل الشرطة

وأخذ المشهد في بريطانيا منحى أكثر تعقيداً ،  فمن جهة، أقرّت الحكومة قانونًا مثيرًا للجدل يوسّع صلاحيات الشرطة ويجرّم التظاهر بذريعة “الإخلال بالنظام العام”. ومن جهة أخرى امتد التضييق إلى الإعلام الذي يُفترض أنه مساحة الحرية الأوسع، فهيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، التي لطالما قدّمت نفسها باعتبارها معيار المهنية والنزاهه، وجدت نفسها في قلب أزمة بعد قرارها منع بث فيلم وثائقي بعنوان “الأطباء تحت الهجوم في غزة” يوثّق استهداف الجيش الاسرائيلي للمستشفيات الفلسطينية في غزه ، وهو القرار الذي قوبل بانتقادات شديدة من صحافيين داخل الشبكة نفسها، عبّروا عن استيائهم من سياسة التحرير التي تقلل من شأن الضحايا الفلسطينيين مقابل إبراز دائم للرواية الإسرائيلية ، ووصفت صحيفة “الجارديان” البريطانية الأمر بأنه “تمييز في الإنسانية”، واعتبرت أن إدارة BBC تمارس حيادًا زائفًا يخفي انحيازًا سياسيًا واضحًا لصالح اسرائيل ، وحتى وكالة أسوشييتد برس أشارت في تقرير مستقل إلى أن تغطية الـ BBC مثّلت خرقًا للمعايير التي تدّعي الشبكة التمسك بها،حيث يُعاد تشكيل الوعي العام بما يخدم السياسات الرسمية للحكومة اذ أنه "من الشائع استخدام كلمات مثل (مذبحة) و(مجزرة) و(الفظائع) بشكل بارز في الإشارة إلى تصرفات حماس، ولكنها نادرا ما تستخدم أو لا تستخدم إطلاقا عند الإشارة إلى تصرفات إسرائيل، الأمر الذي يعزز من حجج اتهام  هيئة الإذاعة البريطانية بالتجريد من الإنسانية والانحياز لاسرائيل وذلك في انحياز لغوي ممنهج لصالح الإسرائيليين، وقد اجري مركز رصد الإعلام (Centre for Media Monitoring) تقييماً اكد إن الـBBC قللت من شأن ما يراه كثيرون اليوم على أنه “إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية اذ قامت بمنع الاصوات التي تتحدث عن ذلك بما افقدها الحياديه والمصداقية المهنيه

أما في هولندا، فقد تحوّلت الجامعات إلى ساحة اختبار لحرية التعبير، ففي جامعة أمستردام وعدة جامعات هولنديه أخرى، نظم الطلاب اعتصامات سلمية تضامنًا مع الفلسطينيين حيث جاء الرد عنيفًا عن طريق تفكيك الاعتصامات بالقوة، اعتقال العشرات، استخدام الغاز والهراوات، وملاحقة النشاط الطلابي باستخدام وسائل مراقبة متطورة، ووصفت منظمة العفو الدولية تدخل الشرطة بأنه “مفرط وغير مبرر”، فيما ندد اتحاد الطلاب بانتزاع الحق في التعبير من داخل الحرم الجامعي. وكانت هذه  الأحداث صادمة بالنظر إلى أن هولندا كانت من أكثر الدول الأوروبية افتخارًا بدعم الحريات الطلابية خلال ثورات ٢٠١١ ، وكانت حكومتها نفسها تشجع الحراك الشبابي في عدد من الدول العربيه ، والمفارقة أن الفعل ذاته، عندما ارتبط بفلسطين، صار جريمة تستدعي القمع.

هذه الوقائع ليست معزولة، اذ كشف تقرير صادر عن European Civic Forum أن ما لا يقل عن ١٢  دولة أوروبية فرضت قيودًا أو حظرًا مباشرًا على المظاهرات المؤيدة لفلسطين في الأشهر الستة التي أعقبت هجوم ٧ أكتوبر، واستخدمت  بعض هذه الدول مبررات “الأمن القومي” أو “التحريض على الكراهية” لتبرير المنع، بينما الواقع أن كثيرًا من الاحتجاجات كانت سلمية بالكامل. كذلك وثّقت منظمة LibertiesEU أن دولًا مثل ألمانيا وبلجيكا والمجر فرضت قيودًا على الشعارات والأعلام الفلسطينية، وجرى تفريق المظاهرات الطلابية بالقوة المفرطة، في حين لم تتحرك المؤسسات الحقوقية الأوروبية الكبرى إلا في حدود بيانات عامة باهتة لا تتجاوز إعراب القلق.

ويتضح التناقض أكثر عند مقارنة هذه المواقف بما تبنته أوروبا في سياقات أخرى. عندما اندلعت احتجاجات هونج كونج ضد الصين عام 2019، تسابقت الحكومات الأوروبية إلى إدانة “القمع البوليسي” وطالبت باحترام حق التظاهر. وعندما خرج آلاف الروس إلى الشوارع ضد الحرب في أوكرانيا، أصدرت المفوضية الأوروبية بيانات قوية وصريحة ضد “التضييق على الحريات الأساسية في روسيا”، أما عندما تعلق الأمر بفلسطين، حيث تُوثّق الأمم المتحدة بشكل يومي جرائم الحرب الاسرائيليه من قتل متعمد للمدنيين وتجويع ممنهج وحرمان من الخدمات الأساسية وتطهير عرقي وأباده جماعيه ، ساد الصمت أو التبرير، هذه الازدواجية تكشف أن الخطاب الحقوقي الأوروبي ليس عالميًا كما يدّعي، بل انتقائي يُستخدم أداة سياسية حسب الحاجة.

ويكشف جانب آخر عن عمق المشكلة المتمثل في  ارتباط كثير من المنظمات الحقوقية والإعلامية الأوروبية ببنيه الاجهزه الأمنية والاستخبارية للدول الاوربيه ، فالمؤسسات التي يُفترض أنها مستقلة غالبًا ما تعتمد في تمويلها على وزارات الخارجية أو على شراكات مع الاتحاد الأوروبي، ما يجعل استقلالها محل شك كبير،  ففي ألمانيا مثلًا، تُعرف المؤسسات المرتبطة بالأحزاب الكبرى بأنها “أذرع ناعمة” للسياسة الخارجية، إذ تنشط في الخارج لتعزيز النفوذ السياسي بواجهة حقوقية، وفي الداخل، عندما يقتضي الموقف السياسي الصمت، فإن هذه المؤسسات تصمت تماماً ، والإعلام بدوره ليس بعيدًا عن هذه البنية؛ فالمجالس الإدارية والتمويلات الحكومية تجعل استقلالية كبرى المؤسسات الإعلامية شكلية أكثر منها حقيقية.

ولا يقتصر التناقض على المؤسسات الحقوقية والإعلامية، بل يشمل أيضًا الحكومات الأوروبية نفسها، ففي الوقت الذي تُجرّم فيه هذه الحكومات رفع العلم الفلسطيني في شوارعها، ترفض فرض أي عقوبات على إسرائيل، فالاتحاد الأوروبي لم يعلّق اتفاقية الشراكة مع تل أبيب، ولم يوقف مشاركتها في برنامج الأبحاث “هورايزون”، رغم التقارير المتواترة حول الجرائم التي يقترفها الجيش الاسرائيلي ضد المدنيين في غزه وفي الضفه الغربيه والقدس الشرقيه . هذا التناقض يجعل الخطاب الحقوقي والرسمي الأوربي أقرب إلى شعارات للاستهلاك الداخلي والخارجي، فيما تُقدّم المصالح الاقتصادية والعلمية والعسكرية مع إسرائيل كأولوية لا يجوز المساس بها،

فمن الملاحظ انه يتم الخلط عن قصد بين معاداه الساميه وبين معاداه الصهيونيه وبين حريه التعبير وإمكانيه ذهابها الي حد انتقاد الممارسات الاسرائيلية الاجراميه ضد الفلسطينيين ، ويبدو ان الصدام قادم لا محاله بين الرأي العام في تلك الدول وبين المواقف الرسميه للحكومات والمنظمات الحقوقية ووسائل الاعلام التي تحاول طمس الحقيقه وعدم اتخاذ الاجراءات اللازمه لوقف المذابح التي تقترفها اسرائيل ضد سمع وبصر العالم ، فما نراه اليوم ما هو إلا مقدمه لتحولات جوهريه ستأخذ طريقها يوماً ماً بعيداً عن احتكار الحكومات الغربيه ومنظماتها الحقوقية ووسائل إعلامها الواقعه تحت سيطره اجهزه امنيه لها اجندتها المضطربه واوهامها في تصوير إسرائيل بأنها الديمقراطية المثلي التي لا يجب توجيه ادني انتقاد لها

إن تراكم هذه الوقائع يكشف أن المشروع الحقوقي الأوروبي يعيش لحظة انكشاف غير مسبوقة. لم يعد الأمر مجرد تناقض في الخطاب، بل تآكل حقيقي في المصداقية الأخلاقية والمهنية، فالقيم الأوروبية التي طالما رُفعت راياتها تحت شعار الحرية واحترام حقوق الإنسان، تظهر اليوم كأدوات ظرفية تُستدعى حين تخدم المصالح الجيوسياسية وتُسحب حين تتعارض معها او تتعرض لاسرائيل ، هذا الانكشاف يطرح أسئلة عميقة: كيف يمكن لأوروبا أن تستمر في ادعاء دورها كمرجعية أخلاقية عالمية، في حين ان نظرتها الحقيقية لحقوق الإنسان ليست إلا سلاحًا سياسيًا.

 

السفير عمرو حلمي 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق مجدي مراد شفيق: تمكين الشباب خيار استراتيجي للدولة وأسيوط نموذج حي لهذا التوجه
التالى نقابة الصحفيين المصريين تجدد إدانتها للجرائم الوحشية للعدوان الصهيوني في غزة