مصطفى الروبى يكتب: قانون الملكية الفكرية وتعزيز الإبداع والابتكار في مصر

في عصر تتسارع فيه خطى التقدم التكنولوجي، لم تعد الأمم تُقاس بما تملكه من ثروات طبيعية، بل بما تملكه من عقول مبدعة وأفكار مبتكرة. هنا، تبرز أهمية قانون حماية الملكية الفكرية كحائط صدّ، ليس فقط في وجه السرقة الفكرية، بل كدعامة وطنية تُشجع الإبداع وتُمهّد الطريق لمجتمع قائم على المعرفة.

المبدع الذي لا يشعر بأن فكرته محمية بقانون، سيظل أسير الخوف من المصادرة والتعدي. أما حين تمتد يد الدولة لتقول له: "فكرتك مصونة، وإبداعك مقدّس"، فإن ذلك يحرّره من قيود التردد، ويُطلق طاقاته لتسهم في نهضة وطنه.

ويرى الدكتور مصطفى الروبي،  المحامي والخبير في الشؤون التشريعية، أن وجود قانون فاعل لحماية حقوق الملكية الفكرية ليس فقط ضمانًا لحفظ حقوق الأفراد، بل هو استثمار طويل الأمد في اقتصاد الدولة وإبداع مجتمعها. وقد شكّلت حماية الملكية الفكرية في مصر استجابة عملية لهذا التحدي، إذ يوفّر القانون غطاءً قانونيًا للمخترعين، والمؤلفين، والفنانين، ورواد الأعمال، ويمنحهم القدرة على تحويل أفكارهم إلى أصول حقيقية.

لا يمكن لمصر أن تحقق نهضتها المنشودة دون بنية قانونية تحمي الابتكار وتكافئ الفكر. فالقانون المصري، وخاصة بعد إصدار الاستراتيجية الوطنية للملكية الفكرية، لم يعد يتعامل مع الإبداع كترف، بل كضرورة أمن قومي واقتصادي. تشير الدراسات إلى أن دعم حقوق المبدعين يسهم في جذب الاستثمارات، وتحفيز الصناعات الإبداعية، وزيادة الناتج المحلي الإجمالي. حماية الفكرة تعني ببساطة تحويلها إلى مشروع، وتحويل المشروع إلى صناعة، والصناعة إلى اقتصاد قوي ومُستدام.

منح القانون المصري المبدع حق الدفاع عن فكرته، لكنه لم يكتفِ بذلك، بل وجّه رسائل حازمة للمعتدين. حيث نص القانون رقم 82 لسنة 2002 على أن الاعتداء على حقوق الملكية الفكرية يُعرض المخالفين للحبس والغرامة، مع تشديد العقوبة في حال التكرار. هذه الرسالة الرادعة ليست فقط لحماية الأفراد، بل لحماية المجتمع كله من ثقافة "النسخ واللصق" والاستهانة بالجهد الفكري.

رغم أهمية القانون، إلا أن الإجراءات الطويلة والمعقدة كانت تقف أحيانًا حجر عثرة أمام المبدعين. لذا، فإن دعوة المشرّع المصري لتبسيط إجراءات تسجيل الحقوق الفكرية، وإنشاء هيئة موحدة للملكية الفكرية، تأتي كخطوة جوهرية نحو تسهيل رحلة المبتكر من الفكرة إلى الحماية. والأهم من ذلك، ضرورة اعتماد مفهوم "التسجيل المبدئي" للأفكار، لحمايتها فور خروجها إلى النور، إلى أن تُستكمل بقية الإجراءات الرسمية. فكم من فكرة سُرقت قبل أن تنضج قانونيًا؟ وكم من مبدع تراجع عن حلمه خوفًا من السرقة؟

العالم لم يعد يعتمد فقط على المؤلفات الورقية أو الابتكارات الميكانيكية. بل دخلنا عصر الذكاء الاصطناعي، والمحتوى الرقمي، والابتكار التكنولوجي غير المسبوق. وهنا، يقف القانون الحالي عاجزًا في بعض جوانبه عن مواكبة هذا الزخم. ومن هنا، يؤكد الدكتور مصطفى الروبي على أهمية أن يُعاد النظر في التشريعات القائمة، لتشمل حماية حقيقية للأعمال المنتجة عبر الذكاء الاصطناعي، والبرمجيات، والتطبيقات الرقمية، والفن الرقمي، وكل ما يُصنّف ضمن ما يسمى بالملكية الفكرية الحديثة. إن تطور القانون أصبح واجبًا لمواكبة التطور الرقمي، تمامًا كما تتطور أدوات المبدعين. فتعديل القانون لا بد أن يكون مواكبًا للواقع، وسبّاقًا للغد.

القانون وحده لا يصنع ثقافة، بل لا بد من وعي مجتمعي يؤمن بأن الإبداع ثروة قومية، وأن الاعتداء عليه خيانة للهوية والنهضة. يجب أن يكون للمبدعين دور توعوي، بأن يكونوا صوتًا لمجتمعهم، ومُلهمين لغيرهم، ومثالًا يُحتذى به في احترام الحقوق الفكرية. وغنيٌّ عن القول، إن غياب الوعي هو عدو القانون الأول، والجهل بالحق أخطر من التعدي عليه. لذلك فإن نشر ثقافة الملكية الفكرية يجب أن يبدأ من المدرسة، ويمتد إلى الإعلام، وينعكس في السياسات التعليمية.

الإبداع ليس رفاهية، والابتكار ليس امتيازًا. بل هما شريان الحياة لمستقبل أي أمة. وقانون حماية الملكية الفكرية، حين يكون حيًّا، مرنًا، عصريًّا، هو بوابة العبور نحو اقتصاد إبداعي ومجتمع منتج. إننا بحاجة إلى قانون لا يحمي الأفكار فحسب، بل يُشجع على ولادتها. قانون لا يردع فقط، بل يُلهِم. قانون لا ينظر إلى الماضي، بل يُصمّم المستقبل.

فلا تقدم بلا إبداع.
ولا إبداع بلا حماية.
ولا حماية بلا قانون عادل ومتطوّر.