أخبار عاجلة

حكايات يرويها - سامح قاسم.. محمود درويش: لماذا تركت الحصان وحيدا؟

حكايات يرويها - سامح قاسم.. محمود درويش: لماذا تركت الحصان وحيدا؟
حكايات يرويها - سامح قاسم.. محمود درويش: لماذا تركت الحصان وحيدا؟
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

سبعة عشر عامًا مرّت منذ أن أُسدلت ستائر المساء على قصيدة كانت تُكتب باسم الأرض، وتتنفّس هواء المنفى، وتزهر فى حقول اللغة كما تزهر شجرة لوز على حافة الجليل. فى التاسع من أغسطس عام 2008، انطفأ قلب محمود درويش، ذلك القلب الذى ظلّ يقرع أبواب الشعر حتى آخر نبضة فيه، وكأنّه كان يكتب ضد الموت، أو بالأحرى مع الموت، فى حوار طويل لم ينقطع بينه وبين الغياب. رحل درويش، تاركًا خلفه إرثًا شعريًا يكاد يوازى فى سعته وجماله خرائط الوطن المفقود.

لم يكن محمود درويش شاعرًا فحسب، وإنما كان ذاكرةً تمشى على قدميها، وشاهدًا على مأساة ممتدة، وفنانًا استطاع أن يصنع من المنفى بيتًا لغويًا واسع الأبواب، وأن يحوّل الجرح الفلسطينى من بيان سياسى مباشر إلى خطاب جمالى وإنسانى عابر للأسلاك الشائكة. لقد جمع فى مساره بين الغنائية العاطفية والصرامة الفكرية، بين رهافة الصورة ووضوح الموقف، فصار واحدًا من القلائل الذين صنعوا من الشعر خيمةً تحمى الحلم من الرياح.

إنّ الكتابة عن محمود درويش بعد سبعة عشر عامًا من غيابه ليست مجرد رثاء متأخر، لكنها محاولة لإعادة النظر فى تجربة ما زالت حية وعميقة، التجربة التى أنتجت نصا ما زال يفتح أبواب التأويل، ويثير الأسئلة، ويعلّمنا كيف يكون الشعر طريقة فى النظر إلى العالم.

284.jpg

الطفولة والمنفى 

فى صباح من صيف الجليل عام ١٩٤١، ولِد محمود درويش فى قرية البروة الفلسطينية، قرية صغيرة تحيط بها الحقول التى يهب عليها النسيم القادم من البحر، وتغمرها رائحة الزعتر والقمح. كانت فلسطين آنذاك على مشارف زلزال تاريخي، لكن الطفل القادم إلى الدنيا لم يكن يدرك أن حياته كلها ستدور فى مدار تلك اللحظة التى لم تكن قد وقعت بعد: لحظة النكبة.

كانت البروة قرية فلسطينية نموذجية، بيوتها من الحجر والطين، أهلها يعيشون على الزراعة، ويعرفون بعضهم بعضًا حتى فى العتمة. نشأ محمود فى بيت متواضع، فى أسرة كبيرة العدد، على وقع أصوات المؤذنين والجرس الرعوى للكنيسة، ومواسم الحصاد حيث تمتزج ضحكات الصغار بعرق الكبار.

غير أن هذا المشهد الريفى الهادئ لم يدم طويلًا؛ ففى مايو ١٩٤٨، كان محمود فى السابعة من عمره حين انقضّت النكبة على القرية مثل إعصار، فهُجّرت أسرته مع آلاف العائلات، فى رحلة لجوء قاسية عبر الحدود إلى جنوب لبنان. فى ذاكرته اللاحقة، ظل يصف تلك اللحظة بوصفها ولادة ثانية، لكنها ولادة فى العراء، بلا بيت، بلا أرض، بلا سقف للسماء. 

فى مخيم اللاجئين فى قرية الجديدة جنوب لبنان، بدأ الطفل يدرك أن العالم يمكن أن يتحوّل فى ليلة واحدة من وطنٍ إلى غربة، ومن بيتٍ إلى خيمة. كانت الخيمة فى نظره خيانة لشكل الحياة التى عرفها، إذ لم يعتد أن تكون السماء جزءًا من جدران البيت، أو أن يصبح المطر ضيفًا ثقيلًا يتسرب إلى وسادته.

بعد عام من اللجوء، عادت العائلة خفية إلى فلسطين، تسللت عبر الحدود فى رحلة محفوفة بالمخاطر، لتجد أن البروة قد مُسحت من الخارطة، واحتلت أراضيها، وبنيت مستوطنة إسرائيلية على أنقاضها. لم يعد بيتهم، ولم تعد المدرسة، ولا الساحة التى لعب فيها صغيرًا. كل شيء كان غائبًا، حتى وهو يقف فى مكانه.

كان الوضع القانونى الجديد يُسمّى بـ"الحاضر الغائب"، وهو توصيف رسمى إسرائيلى لفلسطينيين عادوا بعد النكبة لكنهم فقدوا حقهم فى أرضهم وممتلكاتهم. هذه العبارة الباردة، المجرّدة، كانت فى حقيقتها مأساة مضاعفة؛ فأنت فى أرضك، لكنك تُعامل كغريب، لك بطاقة هوية، لكنها بطاقة تُذكّرك كل يوم بأنك مُستباح الحق. هذه الثنائية – أن تكون حاضرًا وغائبًا فى الوقت نفسه – ستصبح لاحقًا واحدة من أهم ثيمات شعر محمود درويش، ومن أكثر الرموز التصاقًا بوعيه الشعري.

فى المدرسة، بدأ المعلمون يلاحظون ميل الطفل إلى اللغة، وولعه بالشعر العربى القديم. كان يحفظ أبيات المتنبى والبحترى، ويكتب مقاطع صغيرة يقرؤها فى المناسبات. لكنّ احتكاكه المباشر مع سلطات الاحتلال الإسرائيلى فى سنواته الأولى رسّخ بداخله أن الكلمة ليست ترفًا، لكنها سلاح. ففى إحدى المرات، حين ألقى قصيدة عن الأرض أمام وفد حكومى إسرائيلى زائر للمدرسة، استدعاه ضابط الشرطة وحذره من "تأجيج المشاعر الوطنية". لم يكن قد تجاوز الثالثة عشرة، لكنه فهم باكرًا أن الشعر يمكن أن يكون جريمة فى نظر المحتل.

تجربة المنفى الأولى فى لبنان، والعودة إلى وطن ممحوّ، خلقت لدى الطفل شعورًا مزدوجًا بالأشواق والفقد، بالألفة والاغتراب. كان يرى فلسطين التى يعيش فيها لا تشبه فلسطين التى فى قلبه. كان المشهد حوله خليطًا من الجنود والحواجز والقيود، أما المشهد فى أعماقه، فمليء بأصوات الجدة، ورائحة خبز الأم، وألوان الحقول فى الربيع. هذه المفارقة ستتكرر فى نصوصه اللاحقة، حيث يحضر المكان مرتين: مرة بوصفه جغرافيا متاحة لكن مستلبة، ومرة بوصفه ذاكرة نقية لكن عصية على الاسترجاع.

فى تلك السنوات، بدأ محمود يكتشف أن اللغة يمكن أن تعيد بناء القرية التى هُدمت، وأن القصيدة يمكن أن تكون بيتًا آخر لا يهدمه أحد. كتب لاحقًا فى ديوان لماذا تركت الحصان وحيدًا:

لماذا تركتَ الحصان وحيدًا؟

- لكى يُؤْنسَ البيتَ، يا ولدي،

- فالبيوتُ تموتُ إذ غاب سُكَّانُها...

البروة التى فقدها ستصبح حجر الأساس فى مشروعه الشعري؛ فهى ليست قرية فحسب، إنها استعارة لكل أرض مسلوبة، ولكل ذاكرة مُصادرة. حين كان يستعيد طفولته فى حواراته، كان يصف نفسه بأنه "طفل وجد نفسه فجأة فى كتاب تاريخ لا يعرفه". كانت طفولته إذن بداية وعيه بأن العالم ليس بريئًا، وأن اللغة قد تكون وسيلته الوحيدة لتثبيت ما يُمحى.

لم يكن غريبًا، إذن، أن تخرج قصائده الأولى مشبعة بعبق الأرض، مسكونة بصوت الفلاحين والنساء العجائز اللواتى يخبزن على التنور، وبالزيتون الذى صار رمزًا للمقاومة فى فلسطين. كانت الطفولة بالنسبة له أشبه بـ"بستان مفقود"، كلما ابتعد عنه ازدادت رائحته رسوخًا فى ذاكرته.

ذلك البستان المفقود، وذلك المفتاح المعلّق فى عنق الأم، وذلك البيت الذى لم يعد موجودًا.. كلها تحوّلت إلى مكونات أولى للقصيدة التى سترافقه حتى رحيله.

لقد حمل محمود درويش منذ طفولته بذرة الشاعر، لكن النكبة واللجوء والعودة إلى وطن غريب كانت بمثابة التربة التى أنضجت تلك البذرة. منذ ذلك الحين، لم يعد يكتب عن الطفولة فقط، وإنما من رائحتها، كمن يحاول أن يستعيد شيئًا لم يكتمل، وأن يرمم ذاكرة فقدت جدرانها.

الشعر المقاوم 

حين عاد محمود درويش من منفاه الأول إلى وطنٍ ممسوح الاسم، وجد نفسه فى قلب واقع جديد: أرضه تحت الاحتلال، لغته محاصرة، وجيله كله يعيش فى حالة أشبه بالسجن المفتوح. كان فى أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات شابًا فلسطينيًا يخطو أولى خطواته فى الكتابة، لكن هذا الشاب لم يكن معنيًا بترف الشعر أو بلاغة الكلمات المجردة، كان يرى أن الكلمة يجب أن تصبح فعلًا، وأن البيت الشعرى ينبغى أن يكون بمثابة حجر يُلقى فى وجه المحتل.

فى تلك الفترة، تشكّل ما عُرف لاحقًا بـ"تيار شعر المقاومة" داخل فلسطين المحتلة، وهو التيار الذى جمع محمود درويش إلى جانب أسماء بارزة مثل توفيق زيّاد وسميح القاسم وراشد حسين. لم يكن هذا التيار تنظيرًا أدبيًا بقدر ما كان ردّ فعل تلقائيًا على الاحتلال: الشعر بوصفه مساحة حرية وحصنًا للهوية، فى وقت كانت فيه الهوية نفسها مستهدفة.

فى سن التاسعة عشرة، كتب درويش قصيدته الأشهر فى تلك المرحلة، "بطاقة هوية"، التى ستصبح شعارًا شعريًا لجيل بأكمله. فى هذه القصيدة، لم يكن يتوسل عاطفة القارئ، وإنما كان يعلن تحديه بوضوح:

(سجّل!

أنا عربي

ورقم بطاقتى خمسون ألف

وأطفالى ثمانية

وتاسعهم سيأتى بعد صيف…)

القصيدة كانت بيانًا سياسيًا بامتياز، قرأه الناس فى الشوارع والمقاهي، وحفظه الطلبة عن ظهر قلب، وأثار غضب سلطات الاحتلال التى اعتقلته أكثر من مرة. هنا، تبلورت صورة درويش فى الوعى العام كشاعرٍ يواجه المحتل بالكلمة كما يواجهه المقاوم بالبندقية.

لكن على الرغم من هذا البعد المباشر، لم يكن درويش يكتفى بالهتاف الشعرى أو بالشحنة الخطابية. كان يدرك، حتى فى بداياته، أن الشعر الذى يقتصر على الهتاف قد يفقد بريقه مع الزمن. لذلك، بدأ منذ منتصف الستينيات يطور لغته، مزاوجًا بين النداء الجماهيرى والصورة الشعرية العميقة. 

فى هذه المرحلة، كان محمود درويش يعيش فى الداخل الفلسطينى تحت الحكم العسكرى الإسرائيلي، ما جعل القصيدة بالنسبة له ملاذًا وحيدًا للتعبير. ومع اتساع حضوره الشعري، صار يُدعى لإلقاء قصائده فى مدن فلسطينية مختلفة، حيث تتحول الأمسيات إلى تظاهرات جماهيرية، يلتقى فيها الناس على إيقاع القصيدة كما يلتقون على الهتاف السياسي.

ومع بداية السبعينيات، غادر محمود درويش فلسطين إلى القاهرة، ومنها إلى بيروت، لينضم إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وليبدأ فصلًا جديدًا فى تجربته. هنا، بدأ وعيه الشعرى يتحرر من الإطار الضيق لشعر المقاومة التقليدي، وينفتح على فضاءات أرحب. كان يقرأ بإسهاب لشعراء عالميين مثل بابلو نيرودا ولويس أراغون، ويستحضر الأساطير الإغريقية والعربية فى نصوصه.

كان محمود درويش فى هذه المرحلة يرفض أن يُختزل فى صورة "شاعر البندقية". هذا الوعى دفعه إلى صياغة مشروع شعرى لا ينفصل عن قضيته، لكنه فى الوقت نفسه لا ينصهر فيها بالكامل. لقد تحوّل مفهوم المقاومة عنده من الفعل السياسى المباشر إلى فعل ثقافى وحضاري؛ فالمقاومة، كما يراها، هى أن تُبقى لغتك حيّة، وأن تصنع من حضورك الثقافى جدارًا يحمى الذاكرة من المحو.

وبينما ظل وفيًا لجذوره الفلسطينية، كان يتقدم بخطى ثابتة نحو قصيدة إنسانية شاملة، يرى فيها أن النضال من أجل الحرية لا يخص شعبًا بعينه، إنه شأن إنسانى عام. هكذا، ستجد فى دواوينه من تلك الحقبة إشارات إلى تجارب شعوب أخرى، وإلى مأساة الإنسان فى كل مكان، مما جعل شعره يتجاوز الحدود الضيقة ليصبح تراثًا إنسانيًا مشتركًا.

لقد بدأ محمود درويش مسيرته شاعرًا يهتف فى وجه المحتل، وانتهى إلى شاعر يكتب عن الإنسان فى مواجهة الفقد والموت والغياب، لكنه ظل طوال الوقت وفيًا لجوهر المعركة الأولى: معركة أن تقول "أنا هنا" فى وجه من يريدك غائبًا.

العاطفة كمنفى موازٍ

إذا كان محمود درويش قد حمل فلسطين فى قلبه كشريان لا يتوقف عن النزف، فإنه حمل الحب كجناح يوازن ثقل الأرض. لكن الحب فى شعره لم يكن استراحة من المعركة، ولا نزهة خارج سياق المنفى، بل كان منفى آخر موازيًا، مساحة شعورية تُعيد إنتاج الفقد بأسلوب مختلف. ولأن حياته كلها كانت قائمة على الترحال والمنافي، فقد كان الحب لديه أيضًا ترحالًا بين وجوه وملامح وأسماء، بعضها من لحم ودم، وبعضها من أسطورة وذاكرة.

من بين كل النساء اللواتى مررن فى حياة محمود درويش، بقيت "ريتا" علامة فارقة. كانت فتاة إسرائيلية أحبها فى شبابه، وجعلها محور عدد من قصائده. فى قصيدة "ريتا والبندقية"- تتحول قصة الحب إلى مأساة مصغّرة للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.

اللافت أن الحب عند درويش لم يكن يومًا خلاصًا من الغربة، لكنه كان أحيانًا إعادة إنتاج لها. فالحبيب، مثل الوطن، قد يكون بعيدًا، أو ممنوعًا، أو زائلًا. وكما كان يكتب عن فلسطين وكأنها صورة فى الذاكرة، كان يكتب عن الحبيبة وكأنها ظلّ يمرّ على الجدار. فى "سرير الغريبة"، نجد هذا الإحساس بالاغتراب حتى داخل لحظة القرب: على الرغم من أن الحب فى شعره كان محفوفًا بالفقد، فإنه كان أيضًا فعل مقاومة ضد القسوة والجفاف. ففى عالم ممزق بالحروب والمنافي، كان الحب عنده هو الدليل الأخير على أننا بشر. قال مرة فى حوار صحفي: "أكتب الحب لأننى أريد أن أذكّر نفسى أننى إنسان قبل أن أكون فلسطينيًا"، وهى عبارة تلخّص فلسفته فى جعل الحب جزءًا لا يتجزأ من مشروعه الشعري، حتى وهو يعيش وسط الخراب.

فى المراحل الأخيرة من حياته، لم يعد الحب مقصورًا على امرأة بعينها، بل أصبح تجسيدًا لفكرة الأنثى فى بعدها الكوني: الأنثى كرمز للخصب، والبعث، والجمال المطلق. الحبيبة قد تكون زهرة، أو غيمة، أو ذكرى، أو صوتًا يأتى من بعيد. وفى هذه المرحلة، تلاشت الحدود بين العاطفة الفردية والتجربة الإنسانية العامة، فأصبح الحب عنده نسيجًا متداخلًا مع الموت، والزمن، والحياة.

المنفى وجغرافيا للروح

لم يكن المنفى عند محمود درويش مجرّد انتقال قسرى من مكان إلى آخر، ولا كان محضَ حالة سياسية يُعرّفها القاموس، كان المنفى فضاءً روحيًا يتشكّل فى اللغة، ويتجذّر فى الذاكرة، ويتحوّل إلى قدر شعري. لقد بدأ منفاه مبكّرًا، منذ أن أفاق الطفل الفلسطينى على فكرة أنّ البيت يمكن أن يُمحى فى لحظة، وأنّ الأرض ليست ضمانةً بقدر ما هى وعدٌ مهدّد. وحين كبر، صار المنفى عنده أشبه بمسرحٍ تتقاطع فيه أصوات المدن والحقول والبحار التى لم يعد إليها، وأصوات الأمكنة الجديدة التى لم يشعر يومًا أنّها له.

كتب درويش عن المنفى لا كضحية فحسب، بل كمن يحوّل الجرح إلى علامةٍ فنية. فى قصيدته "مديح الظل العالي"، نجد أن فكرة الرحيل تتداخل مع فكرة البحث عن هوية متجدّدة:

هنا يصبح الحنين ليس فقط إلى الشخص أو الطقس، ولكن إلى الجغرافيا العاطفية التى صارت بعيدة، حتى لو كانت مترسخة فى خلايا الذاكرة.

المنفى فى شعره هو أيضًا مختبرٌ لصناعة لغةٍ جديدة؛ لغةٍ لا يثقلها الحاضر فقط، بل تشدها جذور ماضية وتدفعها أحلام مستقبلية. فى باريس، بيروت، القاهرة، رام الله، وحتى فى محطات عابرة مثل موسكو أو قبرص، كان يكتب وكأنه يحمل فلسطين كاملةً فى حقيبته، لا كخريطة جامدة، بل كحديقة متحركة فى الكلمات. لقد قال يومًا: "المنفى هو أن تكون حاضرًا وأنت غائب، وغائبًا وأنت حاضر." وهى جملة تكثّف معناه الشعرى للاغتراب.

وإذا كانت الذاكرة الفردية تتحمل بعض أشكال الفقد، فإنّ الذاكرة الجمعية التى حملها درويش كانت دائمًا تحت الحصار. لقد وعى أنّ المنفى الفلسطينى ليس مجرد تجربة شخصية، بل هو تجربة جيل كامل، بل أمة بأكملها، ولذلك لم يكن يكتب عن نفسه بقدر ما كان يكتب عن ذلك الوجع المتناسل فى كل بيت خالٍ، وكل بستان اقتُلِع، وكل مفتاح بيتٍ ورثته الأجيال كما يرث الناس الحُليّ القديمة.

فى نصوصه، يتجلّى المنفى أيضًا كنوع من الحوار المستمر مع الذات: من نحن خارج أرضنا؟ هل نصبح آخرين؟ هل تتفتت هويتنا فى المدن البعيدة، أم أننا نحملها معنا مثل قلب إضافى ينبض فى الظل؟ لقد وجد درويش فى الشعر وسيلةً لردم المسافة بين "هنا" و"هناك"، بين ما هو واقع وما هو حلم. كان يسعى إلى ما يمكن تسميته "استعادة رمزية" للوطن، حيث يصبح القصيد هو البيت، والبيت هو القصيد.

ولعلّ ما يميّز تجربة درويش عن تجارب كثير من شعراء المنفى هو أنه لم يسقط فى فخّ النوستالجيا الميتة. لم يكن أسير الماضي، بل كان يحوّل فقده إلى مشروع فنى مستمر، يوثّق الجرح ويطوّعه فى الوقت ذاته. لذلك، فإنّ المنفى عنده ليس انقطاعًا تامًا عن الجذر، بل هو جذر ممتدّ فى فضاء آخر، يمدّ أغصانه عبر الحروف.

لقد ظلّ محمود درويش، حتى آخر أيامه، يعيش فى منطقة الوسط: لا هو عائد تمامًا، ولا هو مغادر تمامًا، وكأنّ قدره أن يظلّ "بين بين"؛ حيث تكون الهوية مشروع بحث لا ينتهي، وحيث تتحوّل الجغرافيا إلى قصيدة مفتوحة على الاحتمالات. فى هذا المعنى، كان المنفى بالنسبة له ليس فقط محنةً، بل أيضًا نعمةً قاسية، جعلت من شعره جسرًا بين المفقود والممكن، وبين أرضٍ تُرى بالعين، وأرضٍ لا تُرى إلا بالقلب.

حين نغلق الكتاب، أو نطوى الصفحة الأخيرة من قصيدة لمحمود درويش، فإننا لا نغلق على نصٍ مكتمل وحسب، بل نغلق على كونٍ كاملٍ يتدفق فى الذاكرة ويستمر فى إشعال أسئلته فى الروح. فالشاعر الذى بدأ حياته فى قريته البعيدة، محاطًا بظلال الزيتون ورائحة الأرض المبتلة، انتهى إلى أن يصير مرآةً هائلة للعصر العربي، ومتنًا شعريًا تتفرع منه أنهار المعنى إلى أجيال وأمكنة ولغات. لقد صاغ درويش مشروعه الإبداعى كما لو كان يكتب ملحمة لا نهائية، حيث القصيدة ليست بيتًا شعريًا بقدر ما هى بيتٌ للحياة نفسها، يؤوى أحلام الناس، وذكرياتهم، وحنينهم الذى لا يفنى.

 

281.jpg

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق موعد انتهاء التوقيت الصيفي 2025 رسميًا.. رجع ساعتك
التالى من هو الفنان أحمد رشوان الذي ودعه الوسط الفني؟