هذه لحظة فاصلة من تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إذ تتصاعد من تل أبيب رياح قرار جديد، أثقل من دخان الحرب وأشد قسوة من الحصار، قرار يلوّح بالعودة إلى مشهد قديم من الدم والتراب، عنوانه «احتلال غزة». لم يعد الحديث عن الأمر مقتصرًا على تسريبات أو تصريحات جانبية، بل أصبح موافقة رسمية من مجلس الحكومة الإسرائيلية، إعلاناً ضمنياً بأن الحرب الجارية لن تبقى في حدود القصف المتقطع، بل ستتحوّل إلى سيطرة عسكرية مباشرة على أرض يسكنها أكثر من مليوني إنسان، أنهكهم الحصار وأرهقتهم المواجهات المتكررة.
العودة إلى غزة ليست فكرة وليدة اللحظة، فالتجربة السابقة ما زالت محفورة في ذاكرة المكان، عقود طويلة ظل الاحتلال جاثماً على قلب القطاع، حتى جاء الانسحاب الإسرائيلي عام 2005 تحت مسمى «خطة فك الارتباط»، في مشهد ظنه البعض نهاية لمرحلة الظل الثقيلة، لكن ما أعقب ذلك كان أشبه بانتقال الاحتلال من شكله المرئي إلى حضور آخر، يفرض سلطته عبر الحصار البحري والبري والجوي، ويقيد كل شريان حياة يربط غزة بالعالم، وبينما انقسم المشهد السياسي الفلسطيني بين سلطة في الضفة الغربية وحكم حماس في غزة بعد أحداث 2007، ظل القطاع رهينة عزلة قاسية، تتخللها جولات من القصف والموت.
كارثة إنسانية معلنة
اليوم، الحديث عن احتلال جديد لا يُقرأ كإجراء أمني بارد، بل ككارثة إنسانية معلنة، وجود قوات ثابتة تتحكم في المعابر والحدود والمرافق، يعني قلب حياة المدنيين رأساً على عقب، وإغراقهم في واقع يومي من نقاط التفتيش، وقيود الحركة، ومصادرة حقهم في إدارة شؤونهم.. التجارب المماثلة حول العالم تروي حكاية واحدة وهي أن الاحتلال لا يطفئ الحرب، بل يعيد إشعالها بأشكال أكثر تعقيداً، ويؤسس لمقاومة طويلة الأمد، تتغذى على الإحساس بالظلم وتستمد قوتها من الحنين إلى الحرية.
في قلب هذا المشهد، يظل الموقف المصري ثابتاً في جوهره، ممتداً من عمق التاريخ الذي جمع مصر بفلسطين في مصير واحد، القاهرة التي دفعت أثماناً باهظة في حروبها دفاعاً عن الأرض العربية، ترى في أي محاولة لإعادة احتلال غزة تجاوزاً للخطوط الحمراء، ليس فقط لاعتبارات سياسية وأمنية، بل لاعتبارات إنسانية وأخلاقية راسخة، التصريحات الرسمية المصرية جاءت حادة في رفضها، مؤكدة أن الحل لا يكون بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، بل بفتح الطريق أمام تسوية عادلة تضمن الحقوق الفلسطينية الكاملة.
مصر التي تحمل على حدودها الجنوبية لغزة شريان الحياة الوحيد خارج الحصار الإسرائيلي، تدرك أن الاحتلال لن يجلب الأمن لأي طرف، بل يضاعف معاناة المدنيين ويغلق أبواب الاستقرار، من رفح حيث المعبر الذي صار رمزاً للأمل وسط الدمار، إلى قاعات الأمم المتحدة، حيث الصوت المصري يطالب بوقف فوري للعدوان، تواصل القاهرة لعب دور الوسيط الحذر، تجمع بين الضغط الدبلوماسي والتحرك الإنساني، ترسل المساعدات وتستقبل الجرحى، وتفتح قنوات الاتصال بين الفصائل الفلسطينية والأطراف الدولية.
هذا الموقف ليس انفعالاً آنياً، بل امتداد لسياسة تعتبر أن أمن غزة جزء من أمنها القومي، وأن صمود الشعب الفلسطيني هو خط الدفاع الأول عن استقرار المنطقة.
اللغة الباردة للقانون الدولي
اللغة الباردة للقانون الدولي تقول أن الاحتلال هو وضع مؤقت تتحمل فيه القوة القائمة بالاحتلال مسؤولية حماية المدنيين وضمان وصول المساعدات الإنسانية وصون البنية الأساسية للحياة، لكن في الواقع الساخن للسياسة والحروب، هذه الالتزامات كثيراً ما تُترك رهينة الميدان، تُفسَّر على هوى القوة المسيطرة، وتصبح حقوق الناس رهينة لمعادلات الأمن والمصالح، إذا أقدمت إسرائيل على فرض سيطرة كاملة على غزة، ستقف أمام التزامات قانونية ضخمة، ومراقبة دولية متزايدة، وربما عزلة أوسع، لكن ثمن هذه الرقابة سيدفعه أولاً وأخيراً سكان القطاع، الذين اعتادوا أن تُكتب حياتهم في هوامش بيانات الأمم المتحدة.
أما الحديث عن القضاء على حماس عبر الاحتلال، فهو اختزال مخلّ لمعنى الصراع، فالحركة ليست مجرد تشكيل عسكري يمكن تفكيكه بالدبابات، بل هي شبكة سياسية واجتماعية استطاعت الهيمنة على القطاع الفلسطيني، وقد يضرب الاحتلال بنيتها العسكرية مؤقتاً، لكنه في الوقت ذاته قد يغذي جيلًا جديداً أكثر تشدداً، يرى في كل جندي غريب على أرضه سبباً إضافياً للقتال.
في المقابل، فإن حماس وجناحها العسكري، كتائب القسام، أظهرت في خطابها واستراتيجياتها استعداداً لتحويل أي احتلال إلى ساحة استنزاف طويلة، تجمع بين العمل العسكري المباشر والحرب الشعبية الممتدة، في قاموس هذه الحركات، الاحتلال ليس نهاية المعركة، بل بدايتها الحقيقية، ولغة الرد قد تتراوح بين العمليات المسلحة وتصعيد الموقف على طاولة المفاوضات عبر وسطاء.
صدى القرار الإسرائيلى
الصدى خارج حدود غزة سيكون واسعاً، بعض العواصم العربية التي جربت مسار التطبيع ستجد نفسها مضطرة إلى التنديد، ولو لفظياً، خشية الغضب الشعبي، دول أخرى ستسعى للتحرك في أروقة الأمم المتحدة، فيما سيتضاعف الزخم في الشوارع العربية والإسلامية والعالمية.. في الغرب ستنقسم المواقف بين دول متمسكة بتحالفها مع إسرائيل باعتبار ما يجري «حرباً على الإرهاب»، وأخرى تدعو إلى وقف الاحتلال وتدين الانتهاكات، ربما مصحوبة بتهديدات بعقوبات أو تجميد تعاون عسكري.
لكن فرص إيقاف القرار على الأرض تظل رهينة عدة عوامل منها حجم الخسائر الإسرائيلية المحتملة، قدرة الأطراف الدولية على ممارسة ضغط حقيقي، وتماسك الموقف العربي والفلسطيني في المحافل السياسية، وفي ظل الواقع الحالي، تبدو هذه العوامل غير مكتملة، ما يجعل قرار الاحتلال إن تم، واقعاً لا يُدفع إلا بثمن باهظ.
السيناريوهات المحتملة متعددة، هناك احتمال لاحتلال جزئي يركز على مدن شمالية، بغرض تقليص نفوذ الفصائل المسلحة، أو احتلال شامل للقطاع مع إقامة إدارة مدنية تحت السيطرة الإسرائيلية، وهو سيناريو يحمل أثقالاً إنسانية وسياسية هائلة، وهناك سيناريو ثالث، أشبه بورقة ضغط، يعتمد على وجود عسكري مؤقت لدفع حماس إلى تقديم تنازلات في ملفات الأسرى أو القبول بترتيبات أمنية جديدة.
في كل الأحوال، ستظل غزة، إذا نُفِذَتْ خطة إعادة احتلال القطاع، على موعد مع فصل أشد قتامة في تاريخها، فصل قد يعيد تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة، ويؤجل لأجل غير معلوم الحلم الفلسطيني بدولة مستقلة، الحرب لن تتوقف، والمعاناة لن تنحسر، والإنسان في غزة سيظل يكتب قصته في مواجهة بندقية وجدار، بينما يتناوب العالم على إصدار بيانات القلق، إن ما يُخطط له اليوم ليس مجرد حدث عسكري، بل مسار سيعيد رسم خريطة الألم في الشرق الأوسط، وسيمتحن ضمائر الدول كما يمتحن صبر الشعوب.
وغزة، التي تتكئ على شريانها الجنوبي نحو مصر، تدرك أن القاهرة ليست مجرد جار، بل سند تاريخي يقف عند منعطفات الخطر، حاملاً إرث الدم والمصير المشترك، وفي مواجهة رياح الاحتلال، يبقى الموقف المصري أشبه بجدار أخير من العروبة والإنسانية، جدارٌ يقول إن الحق الفلسطيني ليس ورقة تفاوض، وإن بقاء غزة حرة هو بقاء الروح العربية حيّة، مهما اشتد الليل وطال الحصار.